Sunday, June 12, 2011

ياسين رفاعية - مصرع ألماس



صبي الفرّان، بائع الكعك، المولود في حارة ( العقيبة) الشعبيّة الدمشقيّة العريقة _ لن أذكر تاريخ ميلاده ، فهو لن يغادر الطفولة،وإن تكلل رأسه بالشيب _من أين تسرّب كّل هذا الحزن إلى روحه،ولماذا رأى الحزن في كّل مكان،وهاله مبكّرا أنّ العالم يغرق ؟!
لم تكن الشام، شام الياسمين،والمشربيات،والبيوت التي يستظّل أهلها تحت أشجار النارنج،ويأتنسون في العصاري حول النوافير ، والبحرات في البيوت الأليفة،ويخرجون جماعات في السيرانات ليبتهجوا بالغوطتين ..بلاد حزن في طفولة ياسين،فمن أين طفحت نفس الفتى الدمشقي بكّل هذا الحزن، وهيمنت الرؤية المتشائمة بغرق هذا العالم على روحه؟!
في قصصه الأولى التي يعترف بأنه كتبها ببراءة، وعفوية،وبقليل من الخبرات الفنيّة،لا ينغلق ياسين على نفسه، وكأنه هو الفرد الأحد، الذي يرى الدنيا من خلال ذات منغلقة متشرنقة منطوية على هواجس شخصيّة.
(المطر) القصّة الأولى في مجموعته( الحزن في كّل مكان)، يكتبها ( صعلوك) حبّيب، تمتحن حبيبته إخلاصه للحّب بأن تطلب منه الدعاء بهطول المطر على الأرض المجدبة، فيكون أن يستجاب دعاء القلب المحّب الطاهر، فتتيقن الحبيبة من صدق حب حبيبها لها . يركض الحبيب الشاب مبتهجاً، مشاركاً الناس فرحهم بانتهاء زمن القحط.
ياسين كأنما يردد مع الشاعر الصعلوك :
فلا نزلت عليّ ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا
إنه غيري كبطل قصّته، ولأنه كذلك فقد حمل حزن الآخرين وهمومهم مبكّراً، هو الذي شارك الفقراء من أترابه، ومّمن هم أكبر منه، شقاء العمل في الفرن، وبيع الكعك،والجوع، و..انتظار مطر ينتظم البلاد جميعها، والعباد جميعهم .
ياسين رفاعيّة كاتب أخلاقي، منذ قصصه الأولى، ولذا فهو حزين لانعدام العدل، وافتقاد روح المشاركة.
القاص الذي لفت الانتباه بمجموعتيه القصصيتين الأوليين، قفز بعد سنوات، من كاتب دمشقي، سوري محلّي، ليحقق مكانةً مرموقةً كقاص على مستوى عربي، بمجموعته القصصية الباهرة ( العصافير)، التي حلق فيها بأجنحة الشعر، وبالشفافيّة الإنسانيّة العميقة، وبقوّة الخيال،وباستبصار يغوص في عمق النفس الإنسانيّة.
بعد العصافير، أضاف ( الرجال الخطرون) وهاجسه امتهان كرامة الإنسان العربي، والقمع الذي يسحق آدميته ويشوّه روحه، ويقهره، ويستبيح حياته ويحولها إلى جحيم.
ولأن ياسين رفاعية نبع حكايا لا ينضب، وخبرات إنسانيّة وتجارب معيشة، ولأنه طوّر ثقافته ومعرفته بأسرار الفّن القصصي، وتلافى نقص التعليم في المدارس الثانوية والجامعة، فقد فجّر طاقاته في أعمال روائيّة رياديّة، أولها رواية( الممر)، رواية الحرب الأهليّة المجنونة التي مزّقت لبنان واللبنانيين، ودمّرت المدينة التي أحّب : بيروت .
بروحه المتسامحة، كتب روايته ( الممر) ، بروح الإنسان المحّب الذي يرفض أن يقسّم المواطنون إلى مسلم ومسيحي، وأن يقتتلوا على الهويّة.
بطل الرواية المحّب المتسامح، وضعت على صدره الفتاة المسيحيّة التي أنقذها صليبا،هو الذي ضحّى بحياته، ماشياً على طريق السيّد المسيح ، مصلوباً افتداءً للناس ...
بعد ( الممّر) يقدّم ياسين رفاعيّة رائعته، نعم رائعته : (مصرع الماس)، رواية الكبرياء، والشرف، و(الزقرتيّة )، رواية موت البطل الذي بموته يعلي من شأن البطولة ، ويبقيها معلماً يرنو إليه الناس، ليكون قدوة لهم في حياتهم .
رواية مكثّفة، متقنة، غزيرة الشاعريّة، هي رواية ( الحارة) وناسها، بل هي رواية الإنسان في كّل مكان،لأنها رواية قيم، والمحلّية هنا ليس انغلاقاً ، ولكنها تواصل بين البشر ، فالخصائص الإنسانيّة موجودة في نفوس البشر أجمعين وإن اختلفوا لغةً ، وجغرافيا ، وظروف حياة .
ياسين رفاعية، في بعض أعماله الروائيّة، والقصصية،متح من تجربته الحياتيّة، كما في رواياته ( وميض البرق) التي نتعرّف فيها على أشخاص التقيناهم في الحياة، وعرفناهم بالأسماء والملامح، ولكنهم في الرواية يعيشون حياةً مختلفةً، تتميّز بانكشاف أعماق لا تراها العين في سلوكها اليومي. هي ليست مذكرات، ولا سِيَر، ولكنها روايات التجربة الشخصيّة فيها توظّف لقول فنّي بديع يستمتع به القرّاء، ويقبلون عليه، هم الذين لم يتعرفوا على بعض ملامح عبد الله الشيتي مثلاً ،أو غيره من رفاق ياسين .
شخصيّاً لم أقرأ في السنوات الأخيرة رواية فيها كّل هذا الموت، والحب، ولوعة الفراق، كما في رواية ( الحياة عندما تصبح وهماً ).
بطل الرواية يغسّل زوجته، يقلّب جسدها، يتأملها ، يحوّل لحظة الفراق إلى حالة تأمّل محموم في سؤال الموت ولغزه . هذه الرواية امتداد معاصر ل( حي ابن يقظان)، وربّما أكثر حميميّة، لأن الروائي هنا يقدّم ( الحياة)، والعلاقات الإنسانيّة لبشر من لحم ودم ، في زمن ومكان معروفين، وليس أسئلة فلسفيّة مجرّدة .
رغم هيمنة الموت، وثقله، ورهبته، فإن ياسين وأمل _ زوجته ورفيقته الشاعرة والإنسانة، وهما بطلا الرواية، ومبدعاها معًا_عاشقا الحياة، يلقنانا أسرار الأشياء البسيطة، التي لا تلفت الانتباه ، ويدعواننا لعدم المرور عليها مروراً عابراً ، يلحان علينا أن نعرفها ، نتأملها ، نحبها، نستمتع بها قبل فوات الأوان .
أمل في الرواية، التي هي زوجة الكاتب، أقصد أمل جرّاح، التي بدأت معاناتها مع مرض القلب منذ مطلع الصبا، ومفتتح رحلة الحياة الزوجيّة_ فكأنما الحياة تغرق ياسين بالحزن محققةً نبوءته كما في قصصه الأولى، وتلاحقه في كّل آن ومكان من دمشق إلى بيروت إلى لندن _ أمل عند الخروج من المستشفى، والعودة إلى البيت، تقبّل خشب الباب، تربت على الهاتف كأنه طفلها ، الهاتف الذي ياما سمعت أصوات الأحبّة عبره، تتلمّس أصابعها الطاولة بوّد وشوق. وهل علاقتنا بالطاولة بسيطة ؟ أليست تجمعنا حولها، تتحاضن أيدينا عبر فضائها ؟! تتشمم أمل الصحون ، تريح رأسها على الثلاّجة : أيها الناس التفتوا للأشياء البسيطة ففيها بعض أرواحكم، وأنفاسكم، وذكرياتكم ، لا تسرعوا في عيش الحياة ، اشربوها على مهل بتلذذ لتهنأوا باللحظات، جرعةً جرعة ، قطرة قطرة.
ياسين ابن الحياة ، المتعطّر دائماً،النظيف الأنيق دائماً ، الذي يمشي وئيداً على رؤوس أصابعه ، هذا الياسين رفاعية داعية لحّب الحياة ، مترهّب في حبّها، رغم كل بلاويها، ومصائبها التي صبّتها على رأسه ، أثقلت بها منكبيه .
صبي الفران، بائع الكعك، التارك للمدرسة اضطراراً وهو في الإعدادي ينجز كّل هذا الفن! هذه أعجوبة .
الحضور الكرام
مررت على ذكر بعض أعمال صديقي الكبير ياسين رفاعيّة، وقفزت على كثير مّما أبدع في القصّة القصيرة ، والرواية ..وهل أنسى ( رأس بيروت ) و( امرأة ناعمة ) والرواية الشجاعة الجريئة ( أسرار النرجس) الرواية الكاشفة ، النابشة في عمق العلاقات، التي كتبها ياسين بمبضع الجرّاح الذي يفقأ العفن المتكيّس في عمق الجسد والروح ، بجسارة ، وخبرة ، ونقد فاضح للشذوذ المغطّى بأكاذيب وتواطآت اجتماعيّة منافقة .
التوقّف عند كّل عمل يحتاج وقتاً طويلاً، وما يخفف شعوري بالتقصير أنني كتبت الكثير عن روائع ياسين القصصية والروائية .
أنا لا أتذكّر مهما بذلت من جهد متى بدأت صداقتنا، ياسين وأنا، ولكنني متيقن جدّاً أنها بدأت كالحب من طرف واحد، منذ قرأت مجموعتيه الأوليين، وعندما صدرت (العصافير) كانت بيننا صداقة، وهكذا كبرت صداقتنا مع دفق رواياته ، ومجموعاته القصصية، وكتاباته للأطفال. وبالمناسبة هو طفل كبير ولذا لا عجب أن يقّص على الأطفال أحسن القصص .
ياسين رفاعية إنسان من ياسمين، وعطر،هوأنيق دائماً ،في أوج حزنه تراه أنيقاً، معطرّاً ، حليقاً ، بطلّة مهيبة ، فكأنما أمل تحرسه وتعنى بأناقته، وهي في العالم الآخر، هي ابنة الشام، زارعة الورد على شرفة ( عشّهما) في رأس بيروت، أمل سيّدة الياسمين .
هو راوية ، وممثّل بارع مدهش، يستحوذ على الانتباه، ويدخل إلى القلب بحكاياته التي يعيد روايتها في كل مرّة بأسلوب جديد، وأداء جديد ، وغايته أن يسعد من حوله ، هو خفيف الدّم .
مرّات أقول : خسره المسرح وربحه الأدب ...
ياسين عاشق للمرأة، جذاب، ساحر، يصيبني وغيري بالغيرة ، وأنا والله لا أحسده ، وإن عتبت عليه دائماً لأنه لم يلقن قلبي أسرار العشق.
حتّى سيارته يدللها، يؤنثها، يعطّرها، فإذا بك في عالم من العطر، تريح رأسك لا على الكرسي ولكن كأنما على صدر أنثوي .
كنت أخجل عندما يصعد إلى سيّارتي، وأرتبك أمام نظراته الزاجرة ، التي تتهمني بأنني أعذّب السيّارة ، أهملها.
لا تنظروا إلى شيبه الناصع الذي يكلل رأسه إن رأيتموه مع فتاة عشرينيّة، باستغراب، فهو ما زال فتى دمشقيّاً، بقلب من ياسمين، لا يكّف عن الحّب ، يواصل نشيده في الأيّام لتصير أجمل وأحلى ، وقابلةً للعيش .
بعد أن عرفّته بصديقي حنّا مقبل، وبصديقتي وأختي ريموندا فرّان ، عمل في ( القدس برّس) فقلب نمط الحياة في المكتب الفسيح، جعله أصص ورد، وفّل، وقرنفل و..مع كل صباح يرّش الأوراق، والأزهار، ثمّ يعطّر الجو و..يأخذ مكانه على كرسيه ليشرع في الكتابة بكامل أناقته، وعطره ...
ياسين رفاعيّة وهب نفسه وحياته للكتابة، حتى صار اسمه علمًا من أعلام الإبداع الروائي والقصصي في بلاد في كل بلاد العرب .
صبي الفرّان الذي حقق هذا كّل هذا المجد، ألا يستحق أن نحتفي به، ونكرّمه، ونأتيه من كّل بلاد العرب،لا من سوريّة وحدها ؟!
أنا شخصيّاً فخور بصداقتي لك يا أخي ياسين، وأرى اليوم روحي أمل ولينا ترفرفان هنا في هذا المكان:الأم ، والابنة، معنا، الشعر والبراءة والشباب، لتباركاك وتحفّا بك. وها حضور الإبن بسّام وإن من بعيد، والأخوة والأخوات والجيران، وحارة العقيبة ، حارة الناس الطيبين الشجعان الذين كان لهم شأن في ( الثورة) على الفرنسيين .
أخي وصديقي المبدع الكبير ياسين رفاعيّة: ها هي فلسطين تحتفي بك اليوم رغم ألمها وفجيعتها، ممثلة ببعض خيرة مبدعيها : أنت الذي كتبت لها، وحملت همّها .
معاً في بيروت كتبنا يا ياسين، وتنقلنا تحت قصف الطائرات المغيرة . لم تختبئ، ولا هربت، ولا انزويت في بيتك، بقيت في بيروت ولم تغادرها، متسلحاً بالكلمة الشجاعة، مع زملائك الكتّاب، والصحفيين،والمقاومين . تنقّلت معرّضاً نفسك لخطر حقيقي، وفي بيتك المضياف قاسمتنا خبز أسرتك رغم ضنك الظروف.
أعرف يا ياسين أن كلماتي اليوم فقيرة، متواضعة ، متقشّفة، فاغفر لي تقصيري ...
يا ياسين :عرفتك وفيّاً ، ولا أدلّ على وفائك من عنايتك بالفنّان الكبير نهاد قلعي ، وعونك له ماديّاً ومعنويا، وإخراجك له من حالة العزلة والنسيان .
أمّا بيتك الكريم فيكفي أنه البيت الدمشقي، بكرم وأخلاقيات الحارة، حارة العقيّبة المضيافة ، بيت ياسين وأمل ، بيت الحب، واللقمة الطيبة ، والحفاوة ، والصداقة...
ختاماً أقول لك : ياسين رفاعيّة أنا أعتّز بأنني صديقك، وأنني قرأت لك، وأنني كتبت عنك قبل ثلاثة عقود، وأنك رقيق كالياسمين، ورهيف ولامع كنصل خنجورة (ألماس) ، وأنك رقيق، طيّب، حنون كمشربيات حارات الشام العتيقة.
أتمنّى لك عمراً من العطاء، لتتغلّب على الحزن، ولوعة فراق الأحبّة، وكمد الحياة، وأحزانها
رشاد أبوشاور

No comments:

Post a Comment