“يا محلاها الحرية” رسالة مجبولة بالقسوة إلى الفرنسيين
أنا ضد المباشرة في الفن لكن لا يمكنني تجاهل الموت والجثث المحروقة والمشوهة والنساء المغتصبات وأشلاء الأطفال
“لم آخذ الأسلوب بعين الاعتبار, فأنا في كل مرة أكون بحالة نفسية معينة, ولم أشعر بحاجة للبحث عن هوية للمعرض بقدر حاجتي للرسم من أجل إيصال فكرة”
هكذا جسد الفنان جمال عنوان معرضه “يا محلاها الحرية” في المركز الثقافي بكريتيه في باريس على المستوى الشخصي, فثنائية الثورة والحرية تقتضي بحسب حتمل فعلاً لا واعياً لدى الفنان, ومثلما ينفلت المجتمع في الثورة من قيوده ومكبوتاته القديمة, كذلك تحرر الثورة الفنان من حقل الوعي المتكلس إلى فضاء آخر, ويبدأ هذا التحرر من اللاوعي وتداعياته, ذلك الخزان العظيم للانفعالات والغرائز الجامحة التواقة للانعتاق نحو فضاءات أرحب, في زمن لم ينجز بعد وعياً ثورياً متبلوراً, لم ينجز بعد حلته الجديدة، فهو لم يزل يكافح للخروج من شرنقة الاستبداد, لم يزل يمزق ملابسه البالية, باحثاً في الوقت ذاته عن ثوب جديد, ثوب يناسب الحرية.
الهم الأساسي بالنسبة لحتمل هو تصوير حالة سوريا, تصوير آلام شعبها, وإيصال صدى المجازر فيها, فاللوحة بحسب حتمل هي وسيلة للخروج من حالة العطالة إلى حالة الفعل, إنها كسر لقيد السلبية نحو المشاركة الفعالة في إعادة إنتاج الثورة فنياً بهدف إيصال رسالة, ولأن الثورة بالنسبة له أداة للوصول إلى الحرية, ولأن للحرية ثمناً مؤلماً, كان لابد له أن يبحث عن رسالة في لوحته, وكان لابد من اختيار أنماط محددة من المتلقين, فهو يعرف أنه في جانب من معرضه يقدم القسوة عارية, ويعرف أنه يقدمها للفرنسيين, أولئك الذين يقفون لأول وهلة ذاهلين أمامها, تصدمهم امرأة مقطوعة النهدين, أو لوحة طويلة يتراكم فيها الموت توابيت أو طبقات لا تميز بين طفل أو امرأة, بين شاب أو مسن, المهم أنه لكل حر أو طامح للحرية مكانٌ في رقصة الموت, أو ربما رقصة الحرية, لا فرق, لأن تفكيك الاستبداد يحتاج إلى طاقة, وأعظم طاقة يمكن لشعب أن يستخدمها في سبيل ذلك هي التضحية, وهي اللحظة التي يتساوى فيها الموت والحرية.
يقول جمال حتمل: “أنا ابن الفنان ألفريد حتمل, وعندما كان أبي في فرنسا ترك مجموعة من الألوان والريش ولكن لم أستطع لمسهم, ونصحني الكثير من الاصدقاء أن أرسم لوحات بألوان الإكليريليك لسهولة وسرعة إنجازها, وبدل من ذلك اتجهت إلى معارض الزخرفة والخط العربي والعجمي, وشاركتُ مرة واحدة في معرض لوحات زيتية مع فنانين مغاربة بأربع لوحات, كانت مجرد محاولة لمتابعة إرث أبي واستخدام أسلوبه, إلا أنني أريد الآن التحرر من هذا القيد, أريد التغلب على رهبة استخدام ألوان وريش أبي والتغلب على أنني ابن ألفريد حتمل الذي لا يستطيع أن يرسم مثله”
لكن حتمل يعترف أن اختيار لحظة الثورة لاستعادة ذكرى الأب إنما يهدف لاستعادة أحلام الأب, فما يحدث الآن في سوريا ليس حلم هذا الجيل وحده, إنما هو حلم مخبأ في أحلام أجيال وأجيال, لذلك أحب حتمل أن يُظهر والده، ألواناً وريشاً، في اللوحات, مع أنه باح بخوفه من قدرة وكفاءة هذا الأب لأنه رسام كبير، وأنه مهما فعل لن يكون مثله, لكن الثورة، من جهة أخرى، حررته, وصارت لديه جرأة التعبير عما يجول في داخله, كما حررت الشعب السوري.
هكذا هي ثورة الشعب السوري, ثورة من أجل حرية الفرد مقابل الشعب القطيع, ثورة للقضاء على مصادرة الذوات الفردية طوال عقود بذريعة الذات الجامعة الوطنية أو القومية, إنها ثورة لإنتاج عقد اجتماعي جديد, الأولوية فيه للإنسان, للشخص, المعرف بذاته, في مواجهة القطيع المعرف بمُثُلٍ وشعارات جوفاء.
ورغم تنوع الأساليب في معرض حتمل, من الواقعية إلى التعبيرية, انتهاء بالتجريدية، مروراً بالانطباعية, إلا أنها جاءت في سياق تجريبي, هدفه محاولة رصد واقع متفجر ومتشظي, مشحون بالانفعالات المتناقضة أحياناً, إنها تجريبية الفنان في محاكاتها لانفلات الأحداث والوقائع من عقالها, انعكاسات متنوعة ومتباينة ومتعارضة وحتى متناقضة أحياناً للحظة انفجار هائل, ومع ذلك سيعلق البعض على المعرض أن ثمة مباشرة في اللوحات وأن الفن لا يحتمل كل هذه القسوة.
لكن جمال يرد ببساطة أنه هو، شخصياً، ضد المباشرة, لكن الواقع الحالي يفرضها, وأن هدفه إيصال قسوة ما يجري للمجتمع الفرنسي, لذلك لا يستطيع أن يتجنب الموت في بلد صارت فيها التوابيت والجنازات مشهداً يومياً, ولا يستطيع تجاهل الجثث المقطعة أو المحروقة أو الممثل بها, في بلد ضج العالم كله بالفظاعات المرتكبة فيه, ولا تناسي النساء المغتصبات وأشلاء الأطفال، ويعلق: “أغلب الناس الذين رأوا المعرض خرجوا بانطباع سوداوي, لكنني لا أستطيع الحديث عن بلدي سوريا وأنا أضحك, مع أني أحب الأمل والفرح, كان لابد من إبراز ثمن الحرية, وعنوان المعرض استوحي من فيلم عنوانه “الحرية كلمة حلوة”, يتحدث عن مساجين يعانون عذاب الدنيا ليخرجوا إلى الحرية, وهذا يعني أن الآلام العظيمة هي درب محتوم نحو الحرية”
هكذا من لوحة رقصة الموت التي تمثل امرأة تحمل طفلاً, إلى لوحة تلاحق الموت التي تُظْهر أفواج الشهداء على أفق مفتوح, مروراً بلوحة أقرب إلى الكولاج تتناول التعذيب في المعتقلات، مع استراحة عند لوحة راحلون, فوقفة خاطفة مثيرة للقشعريرة عند لوحة امرأة مقطوعة الثدي وفي عينيها نظرات اتهام واضحة, ثم استعادة تجريدية لنواعير حماه مدينة المجازر, لكن هذه المرة نواعير من أجساد الشهداء, وصولاً إلى المحطة قبل الأخيرة، ستة شهداء يمثلون حالات فريدة في التضحية, الطفلة أسماء أبو اللبن التي رفعت لافتة ترجو ألا يأتي دورها بالقتل فاستشهدت في داريا, وابراهيم القاشوش الذي اقتلعت حنجرته لأنه غنى, فعزفت ملايين الحناجر كلماته, وغياث مطر الذي كان يقدم الماء وأغصان الزيتون لجيش الوطن واستشهد قبل أن يكتشف أنه جيش الغزاة, وباسل شحادة السينمائي العائد من أمريكا ليعيش الحلم بالكاميرا, ومشعل تمو السياسي، وحمزة الخطيب الطفل, جميعهم كانوا يشكلون طريقاً نحو اللوحة الأخيرة, نحو النهاية المحتومة, نحو ياسمينة دمشق البيضاء، اللامعة في لا نهائية الأزرق.
معن عاقل-باريس-خاص كلنا شركاء