'تشكلتُ على نحو مغاير في السجن، رغماً عن السجن لا بفضله..كنت مشتت الذهن والكيان قبل اعتقالي، وعرضاً للتحطم لو لم أسجن. والسجن كان فرصة لإعادة تشكلي بصورة أقل تعثراً، أقل تبعثراً أيضاً، وأنسب توجهاً في العالم.' يقول ياسين الحاج صالح في كتابه الجديد' بالخلاص يا شباب. 16 عاماً في السجون السورية' (عن دار الساقي) خلال أكثر من مئتي صفحة نعيش معه هذا التشكل التدريجي في'تجربة انعتاق حقيقية. انعتاق عبر الصراع مع السجن ومع النفس ومع الغير، وعبر التعلم من الرفاق ومن الكتب'.
اعتقل ياسين الحاج صالح عام 1980 وهو في العشرين من عمره. كان طالباً في السنة الثالثة في كلية الطب بجامعة حلب وعضواً في الحزب الشيوعي السوري/ المكتب السياسي. أفرج عنه عام 1996 وهو في السادسة والثلاثين. بين التاريخين، في صفحتين فقط، في أول الكتاب، يلخص لنا ياسين ما يراه محطات أساسية خلال فترة سجنه، منها مثلاً:
صيف 82 سمح لنا بإدخال الكتب.
ربيع 83 صرنا نخرج إلى باحة السجن ونتريض.
عام 85 توفرت لنا مواقد كاز للطبخ والشاي.
عام 86 حصلنا على جهاز تلفزيون.
ربيع 94 نلت حكماً بالسجن لمدة 15 عاماً.
في صباح 3/1/96 نقلنا إلى سجن تدمر.
بالطريقة التي يورد فيها التواريخ ويربطها بالأحداث تبدأ الغصة تنعقد في الحلق. الجمل جافة تقريرية وكأنها لمعلق محايد. ثم تأتي الجملة النهائية البسيطة في آخر الصفحتين اللتين تفتحان الحكاية، تأتي كالصفعة:
' قضيت في السجن 16 عاماً و14 يوماً'.
تتنبه أكثر إلى الغصة في حلقك وتكاد تختنق. يمسك ياسين بك ويقودك عبر رحلة اكتشاف مشتركة ولا يخطر لك أن تتركه لحظة واحدة. برغم الغصة في حلقك. برغم اختناقك. تقرأ الفصول المتنوعة واحداً بعد الأخر بكثير من المتعة. هل يمكن أن تكون المتعة جارحة إلى هذا الحد؟ ربما كان علي أن أجد كلمة أخرى.
أدب سجون؟
لا يندرج كتاب ياسين في هذا التصنيف برغم أنه يدور حول تجربة السجن ويخترقها ويفصفصها ويستقصي توابعها. إنه يعي هذا المكان القلق الذي يحتله كتابه متفلتاً عن التصنيف، فهو يريد أن يحول السجن إلى موضوع ثقافي، كما يقول، رغبةً في ' نزع السحر عنه والمساهمة في تقويض ما يتصل به من أساطير، أسطورة السجين السياسي خاصة. ' نعم ، مع تتابع الصفحات ، شيئاً فشيئاً نعرف أنه محق فيما قاله في مقدمته : هذا ليس أدب سجون. وندرك انها ليس حكايات محبوكة يمكن لنا أن نتساءل عن نسبة التخيل فيها. لا . إنها 'فجوة محفورة في اللحم لا تقبل الامتلاء '
الشيء الوحيد الذي نتعلمه في السجن هو أننا سجناء.' أجاب الشاعر والفنان بريتن بريتنباك عندما سئل عما نتعلمه في السجن بعد أن أمضى ثمانية أعوام في سجون نظام الأبارتايد قي دولة جنوب افريقية .' السجن عمل همجي بربري وعلى المجتمع أن يفهم هذا'. نجد الجواب نفسه بكلمات أخرى يقولها ياسين عندما يسأله أحمد الحجيري: ماذا يعني أن تمضي الجزء الأهم والأجمل من حياتك في السجن؟' يعني :'أكل هوا'. شيء لا يمكن إضفاء قيمة نسبية عليه. خسارة مطلقة. لا تتوافر قطع غيار لسنوات السجن'. يجيب ياسين.
بلى، كان للسجن فائدة في تلك الفترة بالذات في سورية الثمانينيات وأكثر التسعينيات .ذلك الزمن البغيض الذي لم يكن ممكناً أن يصون فيه المرء بقاءه إلا إذا تخلى عن كرامته. يصبح السجن وقتها 'مكاناً أكرم من أي مكان آخر لأي شخص مستقل الضمير ومعارض للنظام.' ولا يمكن لأي منا ، نحن السوريين، إلا أن يعود بذهنه مستعيداً تفصيلات تلك السنوات التي يحيلنا إليها ياسين في جمل سريعة متتالية: ' كان ذلك الزمن هو العصر الذهبي للمخبرين وكتاب
التقارير، زمن ' المسيرات الشعبية العفوية' المذلة والاستفتاء وبرقيات الولاء بالدم وصعود الوضعاء، وانتشار مسلحي النظام ..وبث الشعور في المحكومين بأنهم الغرباء في 'سورية الأسد' ..وأن تبعيتهم شرف لهم ، وأن خوفهم هو أمانهم' النتيجة المنطقية أن تأتي كلمات ياسين بعدها:' كنا في السجن ، نجونا من أبشع هذه المظاهر. الحمد لله.'
تقرأ الكتاب ولا يمكن لك إلا أن تتساءل: ما هي هذه السلطة التي تسجن شاباً في العشرين من عمره لأنه منتم إلى حزب سياسي؟ لم يكن وحده، كانوا كثيرين ومن اتجاهات سياسية متعددة. يسكنك السؤال برغم أن هذه السلطة نفسها حاولت أن تفرض على مجتمع بأكمله أن يرى هذا ' طبيعياً' وأن يتعامل معه دون أسئلة. إذا كنت لا تعرف الذنب الذي اقترفته فإن السلطة تعرفه وتعاقبك عليه بكل ما تملك من طرق العسف والإذلال وحتى القتل، ولا تنساك حتى بعد أن تلفظك خارج سجونها لتعيش في المجتمع:'كان السجن شاقاً علينا جميعاً، فظيعاً أحياناً. لقد ضربنا وعذبنا وأهنا واحتقرنا وأذللنا وجعنا ومرضنا، وضربنا ثانية، وأهدرت سنوات ثمينة من أعمارنا، وعوملنا ونعامل اليوم معاملة تمييزية وضيعة'.
لم يكن يا سين وحده؟ كانوا عشرات الآلاف، على خلفيات سياسية مختلفة. صار الاعتقال السياسي قضية وطنية عامة في سورية الأسد. يؤكد ياسين على أوضاع السجناء من الإخوان المسلمين معتبراً أن الواحد منهم كان 'السجين المطلق' وما عاشوه، بخاصة في سجن تدمر' السجن المطلق' لايمكن لإنسان أن يتحمله، إذ لا سجن يمكن أن يضاهيه في التعذيب اليومي والحرمان وسلب الإنسانية وحتى القتل.' لقد فقدت سورية بحرمانهم من ظروف مماثلة لظروفنا غنىً ثقافياً ممكناً، أضيف إلى خسائر إنسانية وسياسية باهظة.'
إن هذه السلطة لا تكتفي بمحوك سياسياً ، بتعطيل حياتك، ببترها، بل تريد انتصاراً آخر تعتبره أساسياً:' كان النظام حريصاً على هزيمتنا أخلاقياً لا سياسيا فقط' يؤكد ياسين، وهذه الهزيمة الأخلاقية هي المعركة التي سيخسرها النظام مع يا سين ومع الكثير من المعتقلين.
برغم ذلك كله يعتبر ياسين سنوات السجن الطويلة فترة 'طفولة ثانية' كان بحاجة إليها ليصل إلى' طقس التنسيب' ويصير راشداً. كان بحاجة إليها كي يصل إلى طريق النضج التي مهدها السجن له:' لقد مثلت تلك السنوات تجربتي الأساسية والمكونة..لقد خلصني السجن من انجراف في الحياة أظنني كنت مهيأ له وهشاً أمامه كل الهشاشة.'
عاش ياسين في السجن الانشغال بالذات والعمل على نحتها تشذيبها وتخليصها من شوائب شِباك دخلها في البداية بإرادته، سلسلة من دوائر متداخلة كان عليه أن يعمل بصبر عنيد على فك ارتباطاتها والتحرر من أفخاخها.' أفضل طريقة للتحرر من السجن هي جعله إطاراً للتحرر من سجون أخرى نحملها في أرواحنا وعقولنا: سجن الإيديولوجية وسجن الحزب وسجن الأنا.'
تجربة انعتاق يسميها ياسين. كانت ضرورية كي يولد من جديد. ذهب الشخص الذي دخل السجن قرباناً لذلك الذي خرج منه.'مات أحدنا ليعيش الآخر' يقول ياسين، وعنف الجملة يمر خفيفاً لأننا عشنا معه ، عبر كلماته، سيرورة تلك الولادة الثانية وفهمنا ضرورتها له ولنا.
ربما كانت أحلى صفحات الكتاب تلك التي يتحدث فيها ياسين عن المثابرة والنفور من الحياة المبددة.عن الكتب والقراءة والتعلم والكتابة التي تدرب عليها في السجن واختارها مهنة. تأتي الصفحات وكأنها قصائد في حب الكتب التي تضاعف الحياة وتوسعها: ' تعلمت الانحناء أمام الكتب واحترامها والتعلم منها والتغير العميق تحت تأثيرها. لقد وسعت الكتب إلى درجة لا تقاس المكان الضيق الذي كنت رهينه'. في الحياة المضافة هذه نحن أحرار وكل قضبان العالم تتساقط وتتهاوى وتتكسر.كم أحببت وصفه لتلك التجربة النادرة التي تعيش فيها جسدياً صحوة خلايا دماغك وهي تتمطى لتنهض من رقادها:' كنت أتوقف عن القراءة نحو الثالثة صباحاً. وخلال الوقت الفاصل عن الاستغراق في النوم كنت أشعر بتنميل شديد في باطن جمجمتي. كأن دماغي يغلي، أو يحدث فيه عدد لا يحصى من الانفجارات الصغيرة. أو كأنما ينفض عنه الغبار، وينتفض'. يتحول كل ما تعلمناه من الآخرين إلى ذرات مسحوق نهضمها ونتمثلها وتسير في دورتنا الدموية . تصير ملكنا ، تصير نحن.
يخطر لي وأنا أقرأ الكتاب وأعيد قراءته أننا ، نحن السوريين ، نتلقاه بشكل مختلف عن القراء الآخرين. قراءة السوري للكتاب ترى وراء كل تاريخ ، كل جملة من جمل ياسين الدقيقة مرجعها، خلال تلك السنوات الغادرة، في الحياة الشخصية لكل واحد منا من جهة وفي تاريخ المجتمع السوري كله من جهة أخرى. والفجوة في اللحم فاغرة جرحها في تجربة كل سوري. تتنوع ألوانها وتفاصيلها ولكنها تبقى حقيقية محفورة بوجعها فينا جميعاً.
يدرك ياسين أن فك قيد الحكاية عنصر أساسي من أي تجربة ممكنة للتحرر من القيود، ولذلك يؤكد أكثر من مرة ضرورة الكتابة عن هذه التجربة وتوثيقها بجميع الأشكال والوسائل و' بقدر ما يمحو السجن الفردية فإن واجب الكتابة عن السجن هو، بالعكس، شق بطن هذا الوحش واستخراج الأفراد منها، واحداً واحداً. أسماؤهم، صورهم، قصصهم، سيرهم، أزمنتهم الضائعة، كلها ثمينة وكلها فذة.'
يقولها ياسين عن السجناء وتمتد الفكرة مباشرة إلى حكايات الشهداء الآن، إلى أسمائهم، إلى قصصهم، سيرهم ، حياتهم المبتورة. سيكون علينا أن نشق بطن الوحش ونخرجهم واحداً واحداً، اسماً اسماً، حكاية حكاية، كي تكتمل الثورة.
هناك من يهمه أن يؤكد أن الثورة في سورية اندلعت من العدم، من جيل شاب منقطع عما قبله وعمن قبله. ولكننا نعرف منذ الآن، و سنكتشف أكثر فأكثر، أن كتاباً مثل ياسين الحاج صالح قاموا بدور فاعل في تشخيص الأوضاع السياسية والاجتماعية وقد نُشرت كتاباتهم وانتشرت وناقشها وتأثر بتحليلاتها الفكرية من قرأها ومن لم يقرأها، وكانت أساسية في التغير الذي عاشه المجتمع السوري بطيئاً في نهاية التسعينيات ليتسرع أكثر فأكثر مع القرن الحادي والعشرين، وكانت هذه الكتابات واحداً من محركات النقلة التي عاشها المجتمع في سورية متفاعلاً مع المجتمعات الأخرى في البلاد العربية وفي العالم.
يقولون إن كل كتاب يخبئ وراءه كتاباً آخر، وخلفَ كتاب ياسين عن السجن ينبضُ كتابٌ عن الحرية:' كان سجني سيرورة تعلم، وبفعلها توسع عالمي، وصرت حراً أكثر . نعيش في السجن حياة مبتورة، ربع حياة أو أقل. لا نتغلب على انبتار حياتنا إن لم نتغير، نغير حياتنا وذواتنا. بضاعف التعلم الحياة ويقلل البتر ' . حرية تلفح القارىء كما تصورها الكاتب محقاً: ' أحب أن أتصور أن ما كتبته عن السجن هو كتابة عن الحرية أو سيرة تحرر ذاتي. نعم في السجن تغيرت وانعتقت من أغلالي الداخلية، وفي السجن تصالحت مع نفسي، وفي السجن كانت ثورتي الشخصية.'
بالخلاص يا شباب ليس كتاباً عن السجن بل عن تجربة حارقة صهرت صاحبها وشكلته بقامة انسان وهي الأعلى. وأجمل غنيمة في رأيي، اكتسبها عبر هذه السنوات هي الكتابة. تحدثت عن المتعة ؟ نعم. في الكتاب صفحات تعادل في جمالها ، برغم قسوة موضوعها، أجمل الكتابات' الأدبية' وأكثرها نفاذاً إلى النفس.
بالخلاص يا شباب ليس كتاباً عن السجن إنه كتاب نتعلم فيه الحياة: ' التحرر من السجن هو أن نرى، أن نسمي، أن نعرف' . نتعلم كيف نفتح أعيننا على كل صغيرة وكبيرة في تصرفاتنا وتفكيرنا ومواقفنا مع من يحيطون بنا ومع أنفسنا. نتعلم ألا نخادعها. ألا نمالئها، نتعلم أن
نتصالح معها، أن نحترمها وربما أن نحبها. نكتشف قدراتها التي لا تتفتح إلا بالجلد والمثابرة والتعلم والتأمل أياً كان الوسط الذي نعيش فيه . السجن هنا هو الحياة بعينين مفتوحتين على سعتهما على الذات وعلى الآخرين، على العالم.
سلوى النعيمي - القدس الغربي