"ربّ
مدينة تدعى بيروت، موئل الحياة، مرفأ ألوان الحب واقعة على البحر فيها جزر
جميلة وأشجار ظليلة، ليست حدّ برزخ ضيق دقيق... بل إنها تتمدد الى الجهة
الشرقية الحارقة عند قدمي جبال لبنان السورية المكسوة بالغابات... بيروت
أمل الحياة، حاضنة المدائن، شرف الملوك، الرؤيا الأولى، شقيقة الدهر،
مواكبة الزمن، عرش هرمس، حمى العدالة، مدينة المشرعين، دار أمزوزينيا، منزل
أفروديت، بيت الهوى، نجمة بلاد لبنان".
نونوس البانوبوليسي
القرن الخامس بعد الميلاد
* * *
إنه سمير قصير.
إنه
تاريخ بيروت، يغرينا دائماً فنطل عليه، بانطباعية تخفف من أثقال هذا
الزمان، وبذائقة من طبيعة الأحلام وصور الحياة وقدرة هذه المدينة أن تعيش
وأن تعود الى الحياة "مهما كان، يمر الغزاة وتبعث المدينة بعدهم عناداً
كبيراً" قراءة سمير قصير مع أشياء من الارتباك مع شاب ذكي أغرم بعاصمته الى
أقصى حدود الفداء.
كتاب
"تاريخ بيروت" لسمير قصير عاشق بيروت وشهيدها يظهر الأخير كبيراً من
مؤرخيها وقد صدر له "عسكر على مين"، "لبنان الجمهورية المفقودة" (2004)،
"ديموقراطية سوريا واستقلال لبنان"، "البحث عن ربيع دمشق" (2004)، "تأملات
في شتاء العرب" (2005).
يعيد
الكتاب لبيروت تاريخها المتعدد وتنوع وجوهها مظهراً الأسباب التي جعلت منها
منذ القرن التاسع عشر إحدى أولى بؤر الحداثة في أرض العرب. لا يفصل الكتاب
الأزمات المتكررة، لكنه يستكشف بأسلوب كبار المؤرخين الاجتماعيين خصوصية
هذه الحاضرة الاقليمية المتنوعة الثقافات التي نمت على صفر مساحتها وفيما
يؤدي الى استجواب حداثة بيروت وسؤالها عن فشلها في استقراء باطني لتاريخها
من خلال المعاناة التي تمر بها حديثاً.
الكتاب يحكي تاريخ المدينة، وبالتالي تاريخ تمدنها، حتى ولو كان يجدر بناسها خلقها من جديد، وليس فقط تاريخ موتها؟
ينقسم
الكتاب الى تمهيد وستة أقسام مع خاتمة عن بيروت بين حاضرها وماضيها:
"بيروت ما قبل بيروت"، و"أسكلة مختلفة" و"عصر النهضة"، و"عاصمة الانتداب"،
و"حاضرة العرب الكوسموبوليتية"، و"مدينة المخاطر كلها"، وفي كل قسم مجموعة
من الفصول مع غنى الهوامش والمصادر والمراجع والوثائق المصورة ولائحة
الخرائط.
كل المدن هدفها
الانسان وهي مسؤولية الانسان بالنهاية بشكل مباشر أو غير مباشر، وهي نتاج
ما يقوم به الانسان في كل ما يتعلق من تبدل في سلوكها وأطوارها ومسؤولية
بقائها يحتاج الى مسؤولية مشتركة للمجتمع ككل.
هذا
يؤدي الى مدخل آخر عن أي مدن نتكلم، بيروت واحدة منها بالعودة الى المفهوم
الكلاسيكي الذي لا يمكن الحفاظ عليه أو بالمضمون الجديد لمفهوم العقد
الاجمالي أي جمهورية الأفراد.
بيروت
المدينة الكوزمبوليتية التي لم تعد ترى فقط من خلال القومية وإنما من خلال
المواطنية الشرعية والفاعلة والحرة، المدنية التي تتحدد وظيفتها الجديدة
على أساس مضامين جديدة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، وكلها تحديات
جديدة.
على أي أساس يمكن أن
تحكم على مدينة، شرعيتها وفاعليتها وحضورها ما قبل الكلاسيكي والكلاسيكي
وما بعد؟ أم على مضامين جديدة ومن يعني المؤرخ والسياسي والمثقف أن يحققها
ويخترق فضاءات من الحرية، تلك الملكية المشتركة الرئيسية، ومن خلالها كل
المعايير الوطنية والقومية والدولية يمكن تطويرها في المدينة الحديثة.
إنه
المؤرخ سمير قصير يكتب عن بيروت الحديثة، يكتب تاريخ بيروت من منطلق الحب
والانتماء والمسؤولية، ومن منطلق السيادة بمضامينها الجديدة القائمة على
الحرية والديمقراطية. مدينة منفتحة، شرقية وغربية في آن.
كتابة
تاريخية تحترم التوازن والترابط في المنهج التحليلي والتأريخي والتركيب في
ترابط الأفكار بعضها ببعض منذ الصفحة الأولى. وتحاشي مجرد السرد للسرد،
الى استعمال المعلومات والتقييم بينية عمل بحثي منطقية تعتمد البراهين
والصور والأفكار والشواهد والصور والترابط بين الفقرات والتقييم النقدي
لآراء نقدية سبقت ومعطيات مختلف عليها لدى عدد من الباحثين.
والأصح
في المنهجية وضع المدينة بيروت/ سيرة المدينة كما سيرة المواطن البيروتي
أو المديني في إطار إشكالية التحولات والمتغيرات، التي طالت أوجه المدينة
بمعناها السياسي والإجمالي وبمعناها الاقليمي والدولي.
في
كل ذلك يكتب سمير قصير عن بيروت من "جوا" بحس مثقف ونقدي وكأنه يكتب بشكل
نهائي، ليس نصائح أو توجيه، وإنما كتابة تحمل تساؤلات عن مدينة عريقة يحتاج
الى إجابات عن موقعها ودورها، وطبيعتها مع تعدد تاريخها وتنوع وجوهها
وأزماتها المتكررة.
600 صفحة،
يقدم فيها سمير قصير سرداً وافياً لتاريخ اجتماع بيروت القديم منه
والحديث، فيحلل عوامل نهوضها وتطورها في كل مرحلة من المراحل التاريخية،
وهو يرى الى وعي تطور المدينة عبر تداخل العوامل الداخلية والخارجية
والتفاعل بينهما. تاريخ شهد مرور لمبيوس الروماني وصلاح الدين الأيوبي
وهنيبعل وأحمد باشا الجزار، وإبراهيم باشا المصري والاسكندر المقدوني
وآخرين.
بيروت أساس الكيان
اللبناني الحديث، مدينة الموزاييك التاريخي والديني، الموزاييك الايجابي
القائم على الانفتاح الحضاري والتعددية والتنوع، بيروت مدينة تحت الضوء
للعالمين الشرقي والغربي واجهت تحولات كثيرة بالسياسة والكتاب والشعر
والثقافة والحياة والصخب الشديد. بسكانها الوافدين من كل مكان، بنسائها
ورجالها وأدبائها وفنانيها وعمرانها. تربة خصبة لهويات متداخلة.
وحدهم
الطغاة والشموليون لم تحبهم بيروت في تاريخها وفتحت ناحية الشرائع والحقوق
والدساتير، ناحية الانفتاح الديمقراطي، اعترف بها الجميع، الشاطئ الذهبي
الذي عرف نشوء الفكرة القومية، وعرّف التمثيل الديمقراطي الأول في المنطقة،
وعايش الحضارات والأساطين وأعاد في كل مرة انتشاره الحضاري على الساحل
المتوسطي الجميل، عصرية ومتجذرة على حفر مساحتها لكن بمخيلة المدن الهائلة.
ما
يقال عن بيروت، يقال عن الشاطئ المتوسطي بكامله، ولو لم تكن بيروت، لا أحد
يدري ماذا من كان شأنها الديمقراطية والتعددية في منطقة تنفجر بأنظمة بدأت
للتو تنزع عن الطغاة والديكتاتوريات وتحب الديمقراطية!
كتاب
"تاريخ بيروت" أصدره سمير قصير بالفرنسية عام 2003، وأصدرته أخيراً "دار
النهار" باللغة العربية، ترجمة حية ومرنة ومثقفة لماري طوق، شهادة مدينية
من شاب حيوي وطليعي كانت له بيروته ومدينته، ذائقة خاصة ومساراً تاريخياً
تحول مساراً شخصياً تراجيدياً قدرياً بالتزام عفوي سياسي أخلاقي بحب
المدينة دفع أطراف تحسد بيروت ولا تحبها الى عدم القبول بهذا الشيء.
ربما
فهم سمير قصير مفهوم السيادة ليس بالمفهوم الكلاسيكي بل بالمضامين
الحداثية. الجديدة والحاضرة الاقليمية المتنوعة في اطار المسؤولية
والمعيارية الأخلاقية السياسية التي ترفض ظلم الطغاة والتي لا تقبل بحرب
الآخرين، ومن يهددون الديمقراطية الحديثة كبنية أساسية للتوافق الوطني،
والذين يغارون من العقد الاجتماعي في مدينة عربية حديثة لا تعرف القوانين
الجامدة وتصر على المحافظة على خصوصيتها.
يبرز
سمير قصير في كتابه تاريخ المدينة الموصول والمقطوع بدءاً من تاريخ ما قبل
بيروت منذ عصور ما قبل التاريخ وحتى القرن الثامن عشر في جولة تاريخية
مكثفة تحدد ماهية بيروت المدينة الشهيرة وما كان لها من ارتباطات بالأمراء
المعنيين والشهابيين وابعد منذ انطلاقاتها (عبر الحديثة) في مزيج من السرد
التاريخي والعلوم الاجتماعية والانتربولوجية، بيروت مدينة عربية متوسطية
منفتحة على كل الحضارات الغربية، أي مدينة عبر قومية منذ لحظة نشأتها. وهذا
لا يلغي فكرة "الأنا والآخر"، الفكرة اللبنانية أولاً، لكن فكرة المسؤولية
والمعيارية التأريخية تقود الى موقع المدينة الذي خرج عن السيطرة المصرية
تحديداً زمن إبراهيم باشا في القرن التاسع عشر لينفتح متوسطياً ويدفع
بسهولة أكثر لازدهار بيروت.
حين
يكتب سمير قصير يكتب راوياً ومعلقاً سياسياً ومؤرخاً اجتماعياً ودليلاً
سياحياً وشاعراً. يألف جماليات وسحر التاريخ، ويألف التفاصيل الكثيرة
والوصف الذي يخدم الفكرة اجتماعياً وسياسياً.
واقعياً
ومباشرا، حديث الطراز، من الجيل الجديد الذي يركز على مضامين الكتابة
الأكاديمية والصحافية في آن بعمق سياسي وبنظرة متسعة الى الأشياء بتصميم
شخصي حضاري ضد كل من يحاول أن يتعامل بعنف مع المدينة ويلغي خصوصيتها،
فكانت حياته تتبع كتابه هذا. تقلد كتابه هذا، قدراً مأسوياً حركياً مثل
تاريخ بيروت نفسه.
تأويل
واقعي في كتابة سيرة مدينة باقتناعات سياسية ترى الى مستقبل المدينة يكمن
في الحرية والديموقراطية، ويكمن في الانفتاح الذي يجري في أحداثه وصوره
شرقاً وغرباً جرياً مع المتغيرات والتحولات وبتطور دائم ليس الانتقال من
حال الى حال. بل بسيرورة ايجابية وإرادة تحدّ بأفكار جديدة مباشرة وواقعية.
سمير قصير يكتب من بيروت بالانتقال من حضارة الى أخرى بيروت المرفأ الأول
الذي يتقدم طرابلس وصيدا أيام إبراهيم باشا، وبيروت التجارة الدينامية،
بيروت الطالعة مع نشأة المشرق العربي الحديث والمنفتحة على الغرب في الزمن
المفصلي المؤسس لبيروت الحديثة وبيروت المركز الإداري منذ الفتح العثماني
العام 1516 ومركز المواصلات في المنطقة والعالم والتي تزايد عدد سكانها من
6000 نسمة مطلع القرن التاسع عشر الى 120000 نسمة في نهايته!
تغييرات
نوعية كبيرة ترافقت مع نهضة تربوية مع مدارس الإرساليات الأجنبية
الكاثوليكية والبروتستانية أسست لتعددية منذ البداية يرمز إليها بوجود
الجامعة الأميركية في بيروت وجامعة القديس يوسف بيروت المعلم بطرس البستاني
واليا زجي والشدياق ومحمد ارسلان، بيروت القومية العربية ثم بيروت دولة
لبنان الكبير العام 1920 أيام الانتداب الفرنسي وبيروت أمين الريحاني
واليأس أبو شبكة وإيليا أبو ماضي ومارون عبود وجبران ونعيمة وآخرين، ثم
صارت بيروت الكوزموبوليتية والهويات المتعانقة الليبرالية واليسارية
والاشتراكية واليمينية.
بيروت
عاصمة الكتاب العربي والشعر والمسرح والفنون وبيروت القضايا العربية وفي
طليعتها القضية الفلسطينية بيروت التي تستقبل عرباً وأجانب في فنادقها
ومقاهيها وتنظم لقاءاتها ومؤتمراتها يوما وتحتفي بأسمائها لوحدها من جماعة
"مجلة شعر": يوسف الخال وأنسي الحاج وأد ونيس وغيرهم، وشاعريها المفضلين
نزار قباني ومحمود درويش، وبيروت معرض الكتاب العربي، ودور النشر والمكتبات
والصحف والتظاهرات الاحتجاجية والمطلبية والكفاحية والنضالية..
أما
بيروت الحرب 1975 ـ 1990 فأخذت جنسيتها المتفجرة العنيفة، المنقسمة على
ذاتها، من الانا والآخر، ولم يكن احد فيها ليتحمل المسؤولية لوقف حروب
اللبنانيين لا بل حروب الآخرين عليها. مع ذلك استطاعت بيروت أن تتجاوز ذلك
بجيل جديد وبواقع جديد يمثل الإرادة والسيرورة في آن. نجحت بيروت في إيقاف
الحرب وإعادة أعمار وسطها، وعادت من طور الإعجاب الى تحت الضوء، بمبادرة
كبيرة من المجتمع المدني الذي لعب دوراً مهماً في الدبلوماسية الشعبية
بنجاحات الأفراد اللبنانيين أولا على كافة المستويات، وما قيل عنه انه ربيع
بيروت الذي على ما يبدو أزعج "الجارين" الجار العدو الذي يقدم نفسه للعالم
الغربي انه النموذج الديمقراطي الوحيد في المنطقة، والجار الشقيق الغيور
والحسود والشمولي. وكم هو لبنان "تعيس" يحيط به هذان الجاران، الجغرافيا
السياسية التي تمارس حصارها الطويل على عاصمة عربية سياسية مركزاً لحيوية
التعبير وسط كل الصراعات السياسية القائمة في المنطقة.
لا
يفصل سمير قصير في كتابه بيروت السياسية عن بيروت النهضة الثقافية
والاجتماعية ولبيروت مساحتها الكبرى في النهضة العربية وللمسيحيين الدور
الطليعي والمبدع فيها أكثر من الدور الإسلامي حتى في إنتاج ثقافة تجاوزت
المساحة المحلية الى العالم العربي وقارات عالمية ومثلت طليعة الحداثة
الفكرية والأدبية والشعرية والفنية والإعلامية والصحافية في كنف نظام سياسي
شكل ضمانة معقولة للحريات العامة ولممارسة النقد والديمقراطية.
بيروت
مثالا كانت السباقة في إدخال الثورة المعلوماتية والإعلامية المرئية فيها،
وكانت بيروت عاصمة الصحافة العربية التي بقيت تمارس دورها المميز والناقد
والمعارض والمتمرد على زمن الوصاية السورية. وعرفت بيروت نهضة متعددة في
ميدان التجارة والاقتصاد لا سيما بعلاقتها مع العالم العربي ومع الغرب.
فتحول مرفأ بيروت بديلاً من مرفأ حيفا ونشأ وازدهر القطاع المصرفي وتطورت
وسائل النقل وشهدت البلاد طفرة اقتصادية مهمة كانت فيها بيروت بنك العرب
والمستشفى والفندق والمدرسة والمكتبة والمقهى والكتاب والسينما والمسرح..
هذا
انعكس في مزاج الحياة اليومية والعلاقات العامة والحياة والخدمات وعلاقة
الريف بالمدينة والهجرات الداخلية وفي ما يقوم من سلوك مديني، وما يستدل من
هذا السلوك الاجتماعي وطريقة تعاطي السلطة معها أو في طريقة تحمل
مسؤولياتها، وتحديد المسؤوليات المادية والمعنوية والأخلاقية، ما كان يحتاج
الى مسؤولية وطنية مشتركة لهذا النجاح المديني وللنجاحات الأخرى المشتركة.
هذا من دون الكلام من أزمة البيئة السياسية غير المتجانسة المحيطة عربياً
وإسرائيليا وما سماه قصير "الشقاء العربي"
وفي
اطار المضمون المديني الجديد كانت بيروت شبيهة (ليس بالمطلق) مع مدن مثل
باريس ولندن ونيويورك ثقافياً وخدماتياً وسلوكيات اجتماعية حتى على مستوى
الحركة لولا ما أصابها من حروب مع اندلاع الحرب العام 1975 محوراً لصراعات
أهلية وإقليمية، وهذا ما يتصل بمدخل آخر الى لبنان اليوم وأي لبنان نريد،
وأي بيروت نريد في التشكيل المديني الذي يراد له ثقافة تأسيسية أخرى شمولية
تسعى الى إلغاء كل هذا الماضي التاريخي العريق ومصادرة كل مكوّناته
وعناصره وأدواته الأساسية. سمير قصير كان يعني أن بيروت لن تقبل أن تعود
الى طرح التضحية بكل تاريخها الخاص، وبكل قيمها المدينية، ولا يمكن أن تقبل
بحرب الكل على الكل على أراضيها مجدداً وهي وذاتها مهددة. ولذلك هي دائماً
مدعوة للتوافق مع ذاتها ومع تاريخها وكل اللبنانيين مدعوون الى الربط بين
"الأنا ونحن" والتطلع الى المصلحة العامة الوطنية والتمسك بقيمهم المشتركة
والتضحية بالمصالح الخاصة والطائفية والمذهبية، وإلا تكون المدينة قد كتبت
موتها بنفسها بمعيارين: المجتمعات الأحادية الثيوقراطية والشمولية.
"لا
شك أن هذه المدينة كانت متعددة، ما يجعل تاريخها متعدداً، ويستوجب إدراجه
في الحلقات السياسية والاقتصادية المختلفة والثقافية خصوصاً التي اتصلت بها
المدينة في عصرها الذهبي الحديث. وإذا كانت مدينة بيروت متعددة فهذا لا
يعني أنه ليس بالإمكان تعريفها: لنقل أن أهمية بيروت المبدئية هي أنها
بالنسبة للمؤرخ حاضرة عربية متوسطية ذات طابع غربي. بيروت حاضرة عربية بصرف
النظر عن عدد سكانها وتسميتها "المتروبول" تفرض نفسها لأسباب تتعلق
بوظائفها منذ مراحل التاريخ الإسلامي وحتى نشوء التنظيمات العثمانية وقبل
ذلك ظلّت لوقت طويل إحدى "أساكل الشرق" على صلة تجارية بمدن العولمة
المبكرة في جنوى والبندقية واكتسبت شهرتها بسبب طابعها الكوسموبوليتي
والثقافي بالدرجة الأولى وتاريخها الاجتماعي لا يختزل بوظيفة مركبة واحدة
كمنطقة حرة مفتوحة على الربح والملذّات الميسرة، ذلك أن تاريخها الاجتماعي
أكثر تلوّناً من هذا الاختزال لوظيفة المدينة...".
"إن
بيروت مدينة مفتوحة ولكن حقيقية وهنا تكمن قيمتها، بيروت جسدٌ حيّ لا يلغي
انفتاحها غناها الداخلي. وهنا بالضبط تكمن حداثة بيروت الحقيقية التي تقاس
انطلاقاً من تاريخ العادات والسلوكيات الاجتماعية وتاريخ الأفكار. هذا ما
جعل المدينة في تاريخها المعاصر تضطلع بمهمة مزدوجة: أولاً صياغة الحداثة
العربية وبلورة مفاهيمها، ولكن أكثر من ذلك، المضي قدماً في ممارسة هذه
الحداثة على الرغم من العقبات القائمة والطرق المسدودة".
إذاً
الكتاب دعوة الى معايشة أزمان وأزمات المدينة وقصير لا يلعب دوراً
تمثيلياً، بل يتمازج مع أجواء مدينته التي تبغي التواصل الحرّ مع ثقافات
العالم لا بل أنه وجد شخصيته الكاملة خلف مدينته، وهو يرى وجوب أن تكون
بيروت كل شيء، وإن كان الزمن المتفجر يبدو غير عادل. وهو الذي رأى كيف أن
الحرب قطعت مدينته الى قطعتين ولا أحد يعلم ماذا يخفي المستقبل، ولم يتجاهل
الأثقال التي وضعت عليها في أزمنة الاضطراب السياسي، ومع ذلك يرى أنها
مدينة حقيقية بكل الوقت، ويعبر معها في 600 صفحة كما عاش فيها وكما حفظها
درباً درباً وزقاقاً زقاقاً، هو الذي سقط في الطريق شهيداً بين بناياتها
ومتاجرها في الزاوية حيث الطريق لم تزل هي، والزحمة باقية. دخل سمير إليها
ولم يغادرها. بيروت مدينة من يدخل إليها لا يغادرها. بيروت هي نفسها دائماً
عاصمة الألم. لم تتغير جغرافيتها:
"عندما
كانت الحياة تسعى أحياناً لاستعادة مجراها في الحرب في الأمكنة الأخرى،
كانت "الجهات التقليدية" تأتي للاستقرار فيها بطريقة آلية لتمنع عودة
الحياة الى طبيعتها. نجا شارع المصارف المهجور من الدمار بإرادة خفيّة من
أصحاب المال والنفوذ من جميع الطوائف. وانتقلت الى بعض الأحياء مجموعات من
أحزمة البؤس التي شردتها الحرب. أما وسط المدينة الواقع بين ساحة الشهداء
وساحة النجمة وشارع فوش وشارع اللنبي وسوق الطويلة، فصار مسرحاً للكلاب
الشاردة ونمت الأشجار والنباتات البرية التي لم يقف بوجهها شيء من قلب ركام
الأبنية لتعلن موت المدينة، وكانت الهياكل المتفحمة لفندقي فينيسيا والسان
جورج تحرس وسط العاصمة الكوسموبوليتية للشرق التي لم تعد إلا عاصمة الألم.
بيروت
عاصمة الألم ألم تكن بيروت تظهر بصفتها نقطة تمركز للاقتصاد العالمي:
"كانت الودائع العائدة لواردات البلدان العربية تدخل الى مصارفها، وكان
بإمكان رجال الأعمال الأجانب الاكتفاء بالإقامة في أحد فنادقها ليعقدوا
اتفاقيات مع رجال الأعمال من المملكة العربية السعودية أو الكويت أو
العراق، أو مع مندوبي شركات في أوروبا والشرق الأدنى، كانت بيروت في
الستينات حتماً محطتهم الأولية لا بل الوحيدة غالباً.
بيروت
على "النصل"، أرضية للاستقطاب الذي يتسع للجميع وللجماعات المتعددة واليوم
كالبارحة تتقاطع التعددية الطائفية مع التمايزات الاثنية والهوية المنقسمة
في بناء وطني غير مكتمل ولم يجر استغلال الظروف الدولية والإقليمية
الملائمة بشكل منظم ومنجز تماماً، ما يصفه سمير قصير "بنهاية البراءة" في
المفصل الستيني الرئيسي الذي حفل بالثورات السياسية والاقتصادية والثقافية
والاجتماعية على أنواعها ولم تستطع التحولات الاجتماعية ولا الإيديولوجية
أن تغني النظام السياسي المنهك عن مساره، لتكون الغلبة للقوى الجديدة
بمعيارية وبمسؤولية شرعية وفاعلة.
كتاب
جميل، كتبه بالرسم بالكلمات والصور كمن يرسم التاريخ في الهواء الطلق لكن
باعتراف بانتهاء البراءة خاصة إذا كانت عاصمة كبيروت ضحية كبيرة، وعنواناً
لتشكيل دائم وجديد من نقطة الصفر ولكن مرة في مواجهة القوقعة الطائفية
والاضطرابات السياسية والتحولات المدينية القائمة بذاتها والتي تدفع المؤرخ
نفسه الى صفوف الشهادة في 2 حزيران 2005، ربما عنواناً لتشكيل مديني جديد
باللون الأحمر هذه المرة.
كتاب
يبني صداقة دائمة مع سمير، كما يبني صداقات وعلاقات مدينية بفعل مذاكرة
تاريخية بذكاء وثقافة وبراعة ولباقة وبحداثيات معاشة بأدوار ذات خلفية
سياسية وثقافية.
والأوراق
الكثيرة تدين الى قوانين المدينة المرنة وليست الجامدة، وتزين الصفحات
بتقنية الكتابة ومكوّناتها وصلاتها، الأكثر نضجاً من سواها، وبوظائف
الكتابة الحيوية واللعب على الكلمات بممارسة سلوكيات الحب والحياة، فبيروت
مدينة رائعة يقع في حبّها الجميع. والحب يقلب الزمن دائماً في بيروت.
من الصعب التخلي عن قراءة بيروت. كما كان من الصعب التخلي عن قراءة كتاب سمير قصير، الشخصية الكاملة خلف مدينته.(المستقبل)
يقظان التقي
http://www.mediafire.com/?x3w2zbrccmipai1
تحتاج
إلى أحدث نسخة من أكروبات ريدر لتتمكن من فتح هذا الكتاب. إذا طلب منك
باسوورد, فهذا يعني أن نسختك قديمة!! رجاءا تنزيل أحدث نسخة من:
http://get.adobe.com/uk/reader/