إذا أعجبكم الكتاب وقررتم لطشه فحلال عليكم, فقط رجاءا أن لاتحذفوا علاماتنا المائية من عليه, تعبنا حتى حصلنا على الكتاب, قضينا ساعات في سحبه وتعديله. فأقل مايمكن هو أن ننسبه لهذه المجموعة. وشكرا لتفهمكم
https://drive.google.com/file/d/0Bxu9nt7A-tWSbG9vMTZMQVU5ZTg/view?usp=sharing
في روايته الجديدة «السوريون الأعداء» الصادرة حديثا عن دار رياض الريس للنشر في بيروت، لا يسجل الروائي فواز حداد أحداث فترة مظلمة في تاريخ سوريا المعاصر فحسب، وإن كانت روايته ترتكز إليها، بل ويرصد أيضاً ببراعة روائية أتقنها في رواياته السابقة، آلية تغول النظام السوري بعد أحداث الثمانينات الدامية، وتمكنه من عبور المآزق المحلية والإقليمية والدولية، خلال نحو ثلاثة عقود بعدها من الزمن، جرى خلالها تكريس مفهوم «القائد الخالد» مع انتشار تماثيله وصوره في أرجاء البلاد، واحتلالها الشوارع والساحات، وتغلغلها في الحارات والدكاكين والبيوت لتصل إلى الدفاتر والكتب المدرسية. حركة تنامت طردا مع اتساع دائرة الاعتقال والتعذيب والقهر، وقمع حرية الرأي، واستفحال الفساد وتوحشه.
جريمة دون سبب
تبدأ الرواية بقيام أحد ضباط الجيش خلال حصار حماه دونما سبب، ومن دون تلقي أمر من رؤسائه، بإطلاق الرصاص على ثلاثة أجيال من عائلة واحدة (جد وأم وأطفال)، وإرسال الأب (الطبيب) إلى المحاكم الميدانية ليواجه مصيره الحتمي بالإعدام. لم يكن قتلاً لوجه القتل، ولا قتلاً لوجه تبييض سجل الولاء للنظام. كان اختباراً للقدرة على القتل كوسيلة لا بد منها لمن يمتلك طموحا بلا حدود لتسلق هرم السلطة، أسوة بمن سبقه. الطريق إلى المجد معبد بالضحايا، إما أن تكون القاتل أو القتيل.
شاء القاتل أن تكون جريمته بلا شهود، إنها التجربة والبرهان لنفسه على قدرته على القتل، اختبار نجح فيه، إلا أن المصادفة شاءت أن ينجو رضيع من حفلة الإعدام، انتشلته الجارة العجوز من حضن أمه القتيلة، وأنقذته من الموت، كرمز لاستمرار الحياة والدفاع عنها ضد الموت، والتعبير عن استمراريته من جيل إلى جيل. لم يعد هذا المشهد الافتتاحي بكل ما يحمله من زخم تراجيدي قاس ومؤلم غريباً عن سياق ما بات مألوفا للسوريين، الذين عجّت يومياتهم بما يفوقه، المآسي المفجعة ناءت بها حياتهم وغصت بها ذاكرتهم الطرية.
يفلسف الحدث الروائي فعل القتل، على أنه أحد وسائل الصعود في مراتب السلطة، والبقاء فيها، لكنها أنجعها. وربما أيضاً للاستيلاء على المستقبل، تحدده العمل على «السلطة إلى الأبد»، إذ لا تتكرس وتمتنع على الغير إلا بالقتل، مع ما تتصل به هذه الفلسفة من أسئلة وجودية عن ماهية الله، ليكون القتل والتمادي بالإجرام إلى أقصى حدود البشاعة، امتحان لعدم الإيمان بشيء على الإطلاق، إذ التحرر من الإيمان بأي شيء سواء كان الله أو الضمير أو الثورة أو القومية والاشتراكية... يطلق الطموح دونما أي وازع من خير أو شر. وإذ ينجح القاتل في اختبار قدراته، يمضي أبعد ما يمكن في طموحاته، تلك التي لن تتوقف عند حد، وسوف يحدد طريقه، لن يتحقق ما يطمح إليه إلا في مطبخ الدولة: القصر الجمهوري.
بهذا المشهد تفتح أحداث رواية ستمتد لـ ٥٠٠ صفحة، عبر ثلاثة خطوط رئيسة شبه متوازية. الأول خط القاضي الذي يمثل محاولة جيل على وشك الأفول؛ إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الوطن ومظاهر العدالة، ولن يكونوا إلا أحد ضحاياه، والشهود على مأساة الانحدار والانحطاط والتشويه والفساد.
الخط الثاني، خط الضابط القاتل الذي بدأ سلم صعوده مبكراً منذ كان طالباً في الثانوية بالوشاية بقريبه البعثي الذي عارض انقلاب ما دعي بالحركة التصحيحية ١٩٧٠. عقب أحداث حماه وسلسلة من الوشايات يجد طريقه إلى القصر الجمهوري، ليكتسب لقب المهندس، ولم يكن سوى طالب هندسة فاشل، لكنه سينجح في هندسة تأليه الرئيس، وتوطيد دعائم النظام مبتدعا طرق وأساليب تكريس مفهوم قداسة الأب القائد الملهم والرئيس للأبد. وهو مطلق نظرية «لا يفل الشعب سوى الشعب»، وذلك عندما شاع أن السوريين سيقيمون بعد عام على مجزرة حماه، مأتماً على أرواح الضحايا من الأهالي، حالة حداد دونما كلام، تتبدى بارتداء السواد وقراءة القرآن والبكاء بأصوات لا تسمع، وصمت سيقض هديره مضاجع القتلة، يعالجها المهندس بإطلاق حملة من الاحتفالات الشعبية في سائر المدن للفعاليات النقابية والمنظمات الشعبية والحزبية والمؤسسات الرسمية تحيي انتصارات القائد والجيش. إثر نجاحه، سيطلق مهندس الأفكار عملية نشر الصور العملاقة للقائد الخالد، لتتلقفها القواعد الحزبية وغير الحزبية بسرعة البرق تطمس البلاد بها. وليهندس أيضا فكرة مكتب المخابرات على المخابرات لا يستثني الفاسدين الكبار من أركان النظام، والاحتفاظ بملفاتهم تحت اليد إلى حين الطلب. وسوف يحتل المهندس مكانه في تراتبية النظام كأحد العناصر الموثوقة في الدائرة المحيطة برأس النظام، ويشرف على عملية تصنيع صنم الدكتاتورية المقدس.
الخط الثالث؛ خط الطبيب الذي أرسل لإعدام محتم، إلا أن مساعداً في الجيش ينقذه من الموت، إبان الخلافات التي نشأت في الحصار بين أجهزة الأمن وقطعات الجيش وسرايا الدفاع والقوات الخاصة، تتوقف عمليات الإعدام ويرسل المحكومون الى أقبية فروع المخابرات في دمشق ومنها الى سجن تدمر، ليواجه مصيرا أمرّ وأصعب، هناك حيث يتوقف الزمن. يحاول الروائي في هذا الخط إضافة الى ما سبق وكتب في أدب السجون السورية، الإيغال في عمق الحالة النفسية والذهنية والفكرية للمعتقل تحت التعذيب، من خلال حالة انفصام اختياري يكون بمثابة حل لتغييب العقل قسريا والتخلص من عبء الذاكرة والوساوس والهواجس.
في تلافيف هذه الخطوط، تمتد خطوط أخرى لشخصيات متنوعة، بعضها نماذج لأطياف اجتماعية نشأت في ظل النظام، فتبرز المرأة كشخصية رئيسة تكبر تحت رعاية المهندس، وتصبح مع الزمن صورة طبق الأصل عنه، هو في القصر الجمهوري، وهي في عالم المال والتهريب، بعدما جمعتهما علاقة حب، باتت علاقة مصالح، وصداقة جسد، بأقل قدر من اللواعج ، فإذا كان قد فكر بداية بالزواج بها، فلأنها فتاة سنية دمشقية، لكن حين عرف أنها من أصول ريفية تعيش في دمشق تخلى عن فكرة الزواج، ليرتبط معها بعلاقة دائمة. وإذ تشير الرواية بشكل عابر الى الفارق الطائفي بينهما من حيث ما يكنه كل منهما من مشاعر لدمشق، يسمي الروائي الأشياء بمسمياتها دون مواربة، ما يفتح باب النقاش على مصراعيه في جدلية (دين السلطة) في سوريا الأسد، ناكئاً عش الدبابير، في نظام يجاهر بالعلمانية ويستثمر بالطائفة، لافتا إلى استحالة انفكاك الطائفة ككل عن نظام قيدها إليه، واستغل حاجتها إلى فرص العمل، وإن انفك عنه بعض نخبها من معارضين وسياسيين، كانوا يودعون في السجون، ويعاملونهم أسوة بغيرهم من المعتقلين. دون أن يحدث ذلك تأثيرا يذكر في تبديد قناعة المهندس بأنه لولا النظام ما كان للطائفة وجود، ولولا الطائفة ما كان النظام ليستمر، فوالديه اللذان تبرأا منه مطلع شبابه آلا الى النسيان، بينما ارتفعت مكانته في القرية ونسي تاريخه الخسيس لما بذله لهم من مساعدات كانت في استقدامهم إلى العاصمة وتوظيفهم في المخابرات، أو التوسط لهم بما يسهل لهم العمل في الوظائف المختلفة، والتمدد في المجتمع، ليكونوا سوره المنيع في مواجهة طوفان كان يعرف أنه قادم لا محالة.
هذه القناعات تهيأ لها مثقف يبررها، دأب على الوقوف تارة مع المعارضة وأخرى مع النظام، لكن حين تهدد وجود النظام انحاز له، ودافع عنه بمنطق طائفي؛ لماذا نتنازل عن السلطة، بعدما استولينا عليها؟ لم نحصل على ما حصلنا عليه إلا من خلالها، إذا كنا لصوص، فهم لصوص أيضاً. أي بديل سيكون أسوأ، القادمون لن يوفروا الطائفة من الانتقام. ليس هناك أجدر من المثقف في إيجاد الذرائع.
لا تقتصر «طائفة النظام» أو بمعنى أدق «طائفة السلطة المستولى عليها»، فقط على العلويين بل تضم طوائف أخرى لا سيما السنّة من تجار وسيدات أعمال وقضاة وعسكر ممن ارتبط وجوهم بوجود النظام، فتماهوا معه وصاروا جزءاً منه، وفيهم من بالغ في ولائه، فكانوا نسخا مشوهة عنه، إلا أن هذا التماهي لم يعفهم من التصفية والاستبعاد والتهميش، في حال أخطئوا في حساب خطوات تقدمهم نحو مزيد من النهب والامتيازات. يعمل النظام وفق آلية سلطوية مستقلة عن أي اعتبار آخر أيا كانت سوى الولاء المطلق. لا يوفر النظام الرئيس نفسه فيما لو نحا باتجاه مضاد لمصالح ركائزه. نظام ليس إلا كتلة صلدة وصماء لا تسمع إلا صوتها، ولا تبالي إلا بوجودها.
يشير فواز حداد في روايته إلى بعض الأسباب التي دفعت السوريين في عام 2011 للجهر بإسقاط النظام والثورة عليه وتمزيق الصور وتحطيم الأصنام المقدسة؛ إنه فقدان أي أمل بالتغيير، فالرئيس في خطابه لم يقدم أي وعد بالإصلاح، كان طيعاً للنظام، تحت زعم أي تنازل سوف يستدرجه إلى آخر. وبدلاً من التهدئة، أعلن الحرب على الشعب.
مع اكتمال دائرة الدم، يكون الرضيع قد كبر وأصبح شاباً، بينما يخرج الطبيب من المعتقل مثقلا بحالة فصام تعزله عن الواقع الى أن يلتقي بقاتل أسرته، وتتملكه رغبة عارمة بالثأر، من دون الإقدام عليه، حتى عندما يقع القاتل بين يديه فريسة سهلة. لم يعد الثأر سوى جريمة أخرى، الانتقام ليس العدالة التي يصبو إليها، ولا الثأر الذي يرتجيه. القاتل صنيعة النظام، والأمر لا يقتصر عليه وحده إنه رد الاعتبار للضحايا ضد نظام دكتاتوري لا ينتج سوى الظلم والقهر والفساد، القضاء ابعد ما يكون عن تحصيل الحقوق لأصحابها؛ الثأر من فرد لا يحقق العدالة، بل يعطي المشروعية لغيابها. القتل كان جماعيا والعدالة يجب ان تكون جماعية بإسقاط النظام. يجد الطبيب طريقه الى حيث يحتاج الثوار لطبيب يعمل في ظروف صعبة في معركة بدأت مع النظام، ليقوم بما لم يقم به في الثمانينات ودفع ثمنه نصف عمره في السجن تحت التعذيب.
يفتتح فواز حداد في روايته محاكمة مرحلة اغتصبت خلالها حياة السوريين، وصادرت مستقبلهم لصالح أسرة، تعمل على أن يكون التوريث مطيتها إلى الأبد، ها هو الزمن يكاد أن يطويهم، الشعب خرج الى الشوارع مناديا الحرية، متحديا آلة القتل غير آبه بتكرار مأساة حماه التي دعيت بمأساة العصر، ليكون ثمن حريته سلسلة مآس لم يشهد لها التاريخ السوري مثيلا لها. مرحلة وان تناول أدباء آخرون بعضا من جوانبها لا سيما السجون إلا أنها لم تخضع بعد لمراجعة أدبية وفكرية وإنسانية بالعمق الذي وصلته رواية فواز حداد. لم يكتف حداد بتسجيل ما حدث بلغة معبرة ومشهدية روائية متقنة، بل حاول البحث عن إجابات على أسئلة يطرحها حدث استمر نحو أربعين عاماً، ولماذا مجزرة حماه، تكررت في كل مدينة وقرية سورية؟ على أمل أن تستكمل هذه الرواية بنتاجات إبداعية سورية، لعل وعسى يفلح الإبداع في الدعوة لفهم ما جرى. مع العلم أن هذه الرواية وغيرها لن تنجو من حملات تشويه والتضليل لصرف النظر عن موضوعها وحرف النقاش حولها الى سفسطة لا جدوى منها سوى الخوض في وخم الجدل الطائفي.
رواية جديرة بقراءة نقدية أدبية بأدوات فكرية سياسية وفلسفية اجتماعية، ومن التجني أن تنال ما تناله الرواية العربية من قراءات صحفية دعائية مستعجلة، أو هجومية لمجرد الهجوم. إنها رواية عن الدكتاتورية في مرحلة التدمير البطيء للمجتمع، وتحويله إلى قطيع، وأيضاً تحولات النفس البشرية في بوتقة التسلطية المؤبدة.
سلمى سالم - بدايات