سحب وتعديل جمال حتمل
صدرت أخيراً عن دار كنعان في دمشق ترجمة عربية وضعها عدنان حسن لرواية "اعترافات عربي طيب" للروائي الاسرائيلي يورام كانيوك.
وكان كانيوك كتب الرواية بالعبرية في العام 1984 وأصدرها عام 1985. وترجمت الى الانكليزية في العام 1987 ونشرتها دار بنتر هولبان البريطانية تحت عنوان "اعترافات عربي طيب".
والعربي الطيب هو "يوسف شرارة" الذي كان ثمرة زواج معقد بين عربي فلسطيني من عكا اسمه عزوري شرارة ويهودية من أصل الماني هي هافا بنت فرانز روزنتسفايغ من زوجته كاثي. والرواية التي صيغت في شكل مذكرات أو اعترافات يكتبها يوسف روزنتسفايغ شرارة من "منفاه الاختياري" في باريس، تحكي عذابات يوسف التي لا تنتهي بسبب وضعه "الشاذ لكونه ابناً لعربي ويهودية، أي أنه عربي بالنسبة للعرب الذين يعتبرون كل من يولد لأب عربي عربياً، ويهودي بالنسبة لليهود الذين يعتبرون كل من يولد لأم يهودية يهودياً. انه ابن شرعي لكل من العرب واليهود، وهو في الوقت نفسه ضحية لهما.
وفي صورة ما فإن كانيوك في روايته هذه ينسج على المنوال نفسه الذي نسج فيه قصصاً وروايات أخرى عدة، تناول فيها موضوع الهوية الملتبسة، فكانيوك المولود في تل أبيب في فلسطين في العام 1930 لعائلة من المستوطنين الألمان متزوج من مسيحية، وعليه فإن أبناءه معرضون لأن يعتبروا من الأغيار. وربما كان هذا هو السبب الذي جعل موضوع الهوية مطروحاً في صورة ملحة على كانيوك.
تبدأ قصة يوسف في الواقع قبل مولده، عندما يترك الألماني فرانز روزنتسفايغ دراسة الطب في برلين ويتطوع في الجيش الألماني الذي يرسله الى فلسطين لمساعدة حلفائهم الأتراك ضد الخصوم الانكليز في الحرب العالمية الأولى. وهناك يتعرف على أبو المسك كافور شرارة الذي يدعوه الى منزله، ويقابل ابن شقيق الأخير عزوري شرارة، ابن الثالثة عشرة آنذاك، فتنعقد بين الشاب الالماني والفتى الفلسطيني صداقة عميقة تشوبها مسحة من الميل الجنسي الملتبس.
ويخسر الألمان الحرب، ويعود فرانز الى المانيا حيث يترك الجيش ويكمل دراسة الطب ويتخرج ثم يتزوج كاثي. ولكن العلاقة مع عزوري لم تنقطع.
وينجب فرانز وكاثي ابنتهما هافا. وفي أواسط ذلك العقد تصعد النازية في المانيا. ويكون على فرانز وكاثي الرحيل امام الاضطهاد الذي يتعرض له اليهود هناك على أيدي السلطات النازية، ويقترح فرانز الهجرة الى أميركا التي تحتاج خبرات جراح مثله، لكن كاثي تصر على المغادرة الى فلسطين حيث يوجد عزوري الذي لا يتردد في الترحيب بهما، وهكذا ينجو فرانز وكاثي من المحرقة بفضل عزوري في صورة أو أخرى.
في فلسطين يفشل عزوري وفرانز وكاثي في اللقاء، فيعيش كل منهما بعيداً عن الآخر. وفي تلك الأثناء تكون هافا قد كبرت، ويكون الصراع بين الفلسطينيين واليهود قد اشتد، فتقرر هافا التطوع في "الهاغاناه"، وتقوم بعمليات عسكرية تجعلها في نظر اليهود "بطلة قومية"، وينتهي الصراع بحرب العام 1948، وتعلن في فلسطين دولة يهودية باسم اسرائيل، ويتحول عزوري الى "لاجئ في وطنه" ص 15 النسخة الانكليزية.
وفي عكا التي بقي فيها عزوري بعد حرب العام 1948 يلتقي الاثنان، عزوري وهافا، ويتزوجان من دون أن يعرفا بعضهما، ومن خلال الزواج تعود العلاقة مع فرانز وكاثي، وينجب عزوري وهافا ابنهما يوسف الذي يختار لنفسه اسم يوسف روزنتسفايغ شرارة، وهو اسم مركب من اسمي جده لأمه وجده لأبيه.
وتبدأ مشاكل يوسف في المجتمع الإسرائيلي بعد محاولات فاشلة من جانبه للانتماء له يجهد خلالها في أن يكون مواطناً اسرائيلياً صالحاً، فهو ابن هافا "البطلة القومية" لإسرائيل في النهاية. لكن هذا المجتمع يرفضه كيهودي، ويعامله كعربي منبوذ، ولا يشفع له انه كتب وهو لا يزال تلميذاً في المدرسة موضوعاً عن "كيف أصبحت الصحراء مزدهرة" شارحاً "كيف أتينا الى أرض خراب خالية من السكان وكيف كانت الأرض مليئة بالمستنفعات، وكان مرض الملاريا منتشراً وكيف أردنا أن نقيم بلداً متحضراً في الأرض الواحدة والوحيدة التي امتلكناها مرة والتي لم يدع أحد ملكيتها منذ ان نفينا منها. كتبت عن العرب الأشرار الذين أتوا ليلاً ليحرقوا بيادرنا، وعن الرواد الصهاينة الشجعان" ص 160.
وتبلغ محاولاته للانتماء لإسرائيل ذروتها حين يكبر ويذهب الى بونيم رجل الموساد الذي ينضح بكراهية لا حدود لها تجاه العرب، ليعمل مخبراً لديه. ولكن بونيم الذي يمثل الوجه الأكثر قبحاً للعنصرية الاسرائيلية، الحاقد ضيق الأفق المستعد دوماً ليس للاتهام فقط بل وللقتل أيضاً، يمعن في اضطهاده، ويصطدم معه يوسف حين يخبره انه قرر التخلي عن العمل معه فيهدده بونيم بالقتل. وحين يأتي موعد تأدية الخدمة العسكرية يذهب يوسف كما يليق بأي إسرائيلي صالح للتسجيل في الجيش لكن طلبه يرفض فيصاب بالإحباط.
وهكذا تفشل كل محاولات يوسف للانتماء الى المجتمع اليهودي الإسرائيلي تحت اسم يوسف روزنتسفايغ، وهو اسم يهودي لا غبار عليه، فيذهب امام هذا الرفض الى وزارة الداخلية الإسرائيلية ويستصدر بطاقة هوية باسمه العربي يوسف شرارة، فتصبح له هويتان. "كانت لدي هويتان وكلما كان يعضني الألم كنت أختار العربية" ص 15.
ولا تقتصر معاناة يوسف على ما يلاقيه هو نفسه من ازدراء وإهانات من جانب "مواطنيه" اليهود، بل إنه يشاهد كيف يعامل والده عزوري شرارة، الذي يعاني احكام الاعتقال الإداري والإقامة الجبرية في منزله في الحي العربي في عكا، عقاباً له على نشاطه السياسي من اجل شعبه من خلال الحزب الذي ينتمي إليه والذي يكتفي بوصفه "بالحزب التقدمي"، وهو حزب يؤمن بالنضال العربي اليهودي المشترك.
ويشاهد يوسف كيف تلحق بوالده الإهانة عندما يحاول الحصول على منصب يستحقه في الجامعة، فهو خبير في شؤون الصراع العربي - الإسرائيلي "عندما حاول عزوري ان يحصل على منصب في الجامعة لم أستطع احتمال الإهانة، فها هو عالم عربي وخبير في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي يستجدي منصباً بينما جلس حوله الأساتذة المتحضرون ذوو الماضي المجيد في الدفاع عن حقوق الإنسان يجادلونه حول الأقدمية" ص 39. ويضيف إن هؤلاء لم يكن لديهم اي اهتمام بالأقدمية "لقد رأوا عربياً لم يستطيعوا ان يبتلعوا حقيقة انه مثقف مثلهم تماماً". ص 39.
وتلحق الإهانة كذلك بهافا حين تتزوج عزوري فتذهب معه الى قبرص لتسجيل زواجهما هناك، قبل ان يعودا لتسجيله في إسرائيل. وترفض وزارة الداخلية تسجيلهما زوجين في البداية وتصرخ امرأة بها "لقد أعددت سريرك ويمكنك النوم عليه" ص 131. تصمت هافا بكبرياء، ويعجز عزوري عن مساعدتها، فقد كان هؤلاء "يهودها". و لكنها تعود وتصرخ "إنكم أسوأ من الناس الذين هرب منهم والداي" ص 131.
وفي موازاة هذا التمزق على مستوى الهوية يدخل يوسف في حال من التمزق العاطفي فيقيم علاقة مع فتاتين: الأولى هي دينا اليهودية والثانية ليلى العربية التي تنتمي الى الحزب التقدمي الذي ينتمي إليه عزوري، وفي حين ترفضه ليلى باعتباره يهودياً ترفضه دينا لأنها تعتقد أنه عربي في أعماقه، لكنها لا تسلم هي الأخرى من تفتيش رجال الشرطة لمنزلها لأن يوسف كان معها فيه يوماً، و"تتساءل دينا عما إذا كنت انا ابن هافا، ما زلت ذلك الفتى العربي الذي يريد قتلها": ص 20.
ويغادر يوسف الى باريس ليكتب اعترافاته، ولكنه قبل ذلك يذهب الى بيروت في محاولة للانتماء الى شقه العربي الفلسطيني، وهناك يقابل صديقه نبيل الذي سبقه في الالتحاق "بالمنظمات". كما يلتقي بعمه جورج الذي اصبح عضواً في حزب الكتائب اللبناني، منتظراً الإسرائيليين ليحرروه من "المنظمات" الفلسطينية.
الحياة التي يرسمها المؤلف لبيروت في اوائل الثمانينات تبدو أقرب الى حياة عصابات المافيا الهوليودية، مسلحون وعاهرات وقادة منظمات يتنقلون في غابة السلاح والجنس هذه. وبالطبع لا يعجب يوسف بهذا النمط من الحياة فيهمّ بالمغادرة عائداً الى باريس، ويخبر نبيل بذلك فيقول له الأخير محاولاً منعه المغادرة "إنك في الوسط تماماً، أنت محروق على الجبهتين" ص 28، لكنه ينجح في الهرب من بيروت بمساعدة عمه جورج الذي لجأ الى لبنان في العام 1948 وأصبح عضواً في حزب الكتائب اللبناني ويعيش في بيروت الشرقية آنذاك، منتظراً الجيش الإسرائيلي لتحرير لبنان من الفلسطينيين.
في الفصل الخاص ببيروت يهبط في صورة مفاجئة مستوى الرواية الفني الى درك يسيء إليه وإلى كاتبها، فالكاتب لا يملك من التفاصيل عن حياة بيروت في تلك الفترة اكثر مما يملكه سائح عابر، بل إنه لا يعرف خارطة بيروت المقسمة آنذاك، فتغيب التفاصيل التي تغني الصورة وتبهت ملامح الشخصيات التي تتحول من شخصيات ثرية واضحة المعالم والقسمات الى شخصيات لا علاقة بينها وبين مكوناتها الذاتية والظروف التاريخية التي عاشتها وبين وضعها الراهن وسلوكياتها وجدوى حياتها، ناهيك عن افكارها وتطلعاتها. ومن الواضح ان الكاتب وضع فصل بيروت بما فيه من اجواء وشخصيات ليوازن بين "مساوئ اليهود" في اسرائيل وبين "مساوئ الفلسطينيين" في بيروت ليوصل فكرة تقول إنه بين مساوئ هؤلاء وهؤلاء سحقت شخصية يوسف.
لكن هذا لا ينفي ان هذه الرواية قدمت جديداً على مستوى عرض الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وفهم الشخصية العربية، وذلك مقارنة بما قدمه روائيون إسرائيليون آخرون، وكشف بعض أبرز العيوب التي يعانيها ليس المجتمع الإسرائيلي فقط، بل والشخصية الإسرائيلية ايضاً والتي تبدو منخورة من الداخل، فالشخصيات اليهودية في الرواية ومن دون استثناء تقريباً تعيش قلقاً وهواجس تربك سويتها، تتساوى في ذلك الشخصيات العنصرية الضيقة الأفق المعلنة المشاعر مثل رجل الموساد بونيم، أو الأخرى التي يفترض انها طبيعية لا تعاني عقد الإرهاب والخوف من العرب، مثل دينا التي تقيم مع يوسف علاقة عاطفية وجنسية طبيعية، لكنها في النهاية تتزوج رامي لأن اهلها يعتقدون انه واحد منهم، وحتى شخصية مثل هافا التي شاركت في عمليات مسلحة حولتها الى "بطلة قومية" لدى الإسرائيليين، فإنها تبدو شخصية عصابية تبحث عن موتها اكثر مما تبحث عن الحياة لنفسها وللآخرين فيأتي موتها في حادث سيارة أشبه بالانتحار.
ومن بين جميع شخصيات الرواية يحتفظ عزوري بتوازنه حتى في أحلك اللحظات وأقساها عليه، فهو يحين يتهمه رجال الشرطة بأنه قتل هافا لمجرد انه عربي وجد في سيارتها وقت الحادث، ويصفونه بالعربي القذر الذي لا يتورع عن قتل والدته، يبقى عزوري متماسكاً وأمام هذه البذاءة يفصح عزوري عن شعور نبيل لا يعرفه العنصريون حين يشك في انه قد يكون "مذنباً في موت المرأة الوحيدة التي احبها حقاً في حياته".
وفي الوقت الذي نرى فيه الشخصيات الإسرائيلية تنطلق في مواقفها من خلفيـة عنصريــة لا حدود لحقدها فإن عزوري ينطلق في مواقفه هذه من ثقافة عميقة ومعرفة واسعة بتاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي ومعرفته بتعقيدات قضيته، وبتناقضات العيش في مجتمع مثل المجتمع الإسرائيلي الذي يصر على البقاء والعيش فيه وليس مغادرته مثلما فعل اخوه جورج الذي لجأ الى لبنان وفقد أي صلة له بوطنه.
ومن خلال حكمته وثقافته ومعرفته العميقة بملابسات الصراع العربي - الإسرائيلي فإنه الوحيد الذي كان قادراً على الدوام ان يضع الأحداث في إطارها الصحيح ويقدم التحليل الدقيق لها ويأتي بالاستنتاج الصائب من خلال حس بالسخرية يلجأ إليه دائماً لمواجهة الحقد الذي يلف كل شيء حوله. ومن خلال هذه المعرفة وهذا الوعي يرى عزوري ان مشكلة ابنه يوسف في هذه الرواية تكمن في انه ملتبس الهوية، وفي انه ليس عربياً ولا يهودياً، ففي مثل هذه الحال لن تكون هناك اي مشكلة. إنه ليس اياً منهما وهو كلاهما في الوقت نفسه.
صلاح حزين - الحياة
للتبليغ عن أي رابط غير فعال, الرجاء إرسال رسالة إلى:
abuabdo101@gmail.com