تسعةُ
شهورٍ تحملُ المرأةُ جنينها ، تعيشُ حملَها ذاك لحظةً بلحظة ، بخوفها من
آلامِ الولادة حيناً ، و تفاؤلها بمجيء كائنٍ ترسمه حسب أحلامها حيناً آخر
.. برهبتها من أسرار هذا الكون العجائبي فيما تواكب نمو جنينها تارةً ، و
فرحها بخصوبتها تارةً أخرى .. و تسعةُ تفاصيلٍ حملتها المجموعة القصصيّة
الأولى للكاتبة ديمة ونوس ، الصادرة عن دار المدى للعام الجاري 2007 بعنوان
تفاصيل ، حيث أودَعَتْ جنينَ الحياة في جوفِ كتابٍ تجاوز المئة صفحة بصفحة
واحدة ، ليمثِّلَ كلُّ تفصيلٍ من تفاصيلها التسعة ، نموذجاً إنسانيّاً
مشحوناً بمشاعر متنوّعة ، و أفكار عدّة ، و وقائع و هواجس و أشياء أُخَر
تتضافر جميعاً مُشكِّلة الحياة بكاملها .
على
طول المجموعة ، يتعثّر القارئ بإشارات علنيّة لروحِ فسادٍ تلفُّ واقعَ
شخصيات ديمة ونوس ، أو بالأحرى تفاصيلها ، حيث النبرة الساخرة لا تفارق
السطور .. و ربما لا تشير الكاتبة للفساد من باب النظرة من زاوية سلبيّة ،
إنّما من أجل إسقاط الضوء على ما يجري في واقع الشخصيات المُقْتَبَس من
واقعها نفسه ، ممّا يحرِّض على النهوض به إلى واقع يبتعد عن وحشيّة الحياة ،
و يقترب إلى حياةٍ أكثر إنسانيّة ..
و
توظّف الكاتبة شخوصها ليؤدّوا الأدوار المقترحة من قبل أفكارها ، عبر
مواقف متنوّعة ، و أحوال مختلفة ..( جهاد ) مثلاً هو ابن السياسي السابق
الذي سيظلّ عظيماً _ برأي ابنه _ مهما توالت السنوات على تقاعده و على موته
حتّى ، لذا يريد أنْ يهيمن على كلّ شيء ، و أنْ يكون السياسي و التاجر و
صاحب الشركات و المثقف و منتج الأفلام و الأغاني و مموّل المسرحيات ، و كلّ
ذلك تحت شعار : ( دعم الاقتصاد الوطني ) .. فشخصية ( جهاد ) تطرح نموذجاً
شاع للغاية ، و هو رأس المال الذي يريد ابتلاع كلّ شيء ، و قَرْنَ اسمه
بكلِّ مُنْجَزٍ ، متجاهلاً أنَّ هذا العصر هو عصر الاختصاص ، و أنّه لا
يمكن لأحد مهما امتلك من الثروات أنْ ينجحَ في أداء الاختصاصات جميعاً ، بل
لن ينجح _ في حال محاولته اقتراف ذلك _ إلاّ بإضافة فشلٍ جديد لأمّته .
في
حين تُرى ( مها ) صحفيّةً ملتزمة ، قضت سنوات عملها الصحفيّ كلّها متبنيّة
لقضية الظواهر الطبيعيّة ، دون أنْ تتدخّل بأي قضية أخرى لا قولاً و لا
كتابة ، لكنّها تخلّت عن قضيتها تلك ، مقابل منحها منصباً هي نفسها تعي
أنّها ليست أهلاً له .. فتفصيلُ ( مها ) يطرح فكرتين واقعيتين : الأولى هي
نظرية ( الشخص المناسب في المكان المناسب ) التي غالباً ما لا تُطبَّق في
المناصب الإدارية ، و الثانية هي تلك الظاهرة التي تُسمّى بـ صحافة الكرسي ،
و هي بمعنى من المعاني تعني اللاصحافة .. تقول القصّّة عن مها : " و لم
تعد الزلازل و البراكين هي المواضيع الوحيدة التي تفجّر صوتها و تحرّره ،
فالكرسي غالي الثمن ، و الحفاظ عليه يتطلّب تنازلات قاسية "ص31
و
تعتمد الكاتبة في مجموعتها مبدأ الثنائيات ، و هذا بديهي أمام قصص تتناول
الحياة ، فالحياة أرضٌ و سماء ، خيرٌ و شرّ ، بردٌ و حرّ .
و
يتجلّى هذا المبدأ في شخصية ( جعفر ) ، و هو سياسي ، و شخصية ( همام )
المثقف .. فالأوّل كان خلال اعتلائه لمنصبه الرفيع يستمدّ من ( همام ) _ لا
شعورياً _ الدعمَ لأفكار متأصلة فيه ، لكنّه اضطر أمام غواية المنصب أن
يخرسها ، و الثاني هو نموذج المثقف الذي لا يستطيع أنْ يُسمّى حرّاً _ في
ظلّ ظروف سياسيّة و أمنيّة معيّنة _ إلاّ بدعم إحدى الجهات العليا .. و لا
يشكّل المثقّف و السياسي هنا أيّة ثنائيّة ضديّة أو مفارقة ، على العكس ،
فهما عبارة عن ثنائية تكامليّة ، كثيراً ما يراها المرء مجسّدة في واقعه
المُعاش ، إلاّ أنّ المفارقة تكمن في شخصيّة ( جعفر ) السياسي ، و شخصيّته
بعد تجريده من منصبه ، فقد تحوّلت الشتائم و الرّكل إلى صمت و تأمّل عميق
في السماء و الياسمين ، و حتّى في الدخان الذي يلفّ المدينة ، و هذه نقطةُ
تفاؤلٍ تُسجَّل لصالح حبر ديمة ونوس ، إذ إنّ الحياة ستكون بخير لو أنَّ
حال كلِّ سياسيّ متقاعد أو مجرّد عن منصبه يؤول إلى ما آل إليه حال جعفر : "
لمح جعفر ابتسامة همام العذبة من وراء الباب االخشبي ، قبّل عينيه بحنان
مفرط و دخل بارتباك كأنّه يتعلّم المشي للمرّة الأولى " ص20
و
تُكمل المجموعة تقديمَ نماذج عبر تفاصيل بشريّة متعدّدة الألوان ، فها هي (
حنان ) تتدخل في شؤون السياسة و الإدارة و التجارة و تبادل الصفقات ، رغم
أنّها امرأة لا تقرأ الجرائد و لا تعنيها أخبار الدنيا ، لكنّها تمارس
تدخلاتها تلك ، تبعاً لمنصب الذي يكون عليه صاحبها ، و غالباً ما تعود
صحبتها تلك عليها و على زوجها بالخيرات .. تأمر و تنهي و تقول للشيء كنْ
فيكون ، فقط لأنّها جذّابة إنّها مثالٌ حيّ على سلطة العهر ، تلك السلطة
التي تتحكم بمصائر الفقراء و الأغنياء بجبروتٍ أعمى .
لقد
اهتزَّتْ أساسات الحياة ، و لم يعد يُعرَفْ الصالح من الطالح ، حيث
الأقنعة آلهةُ العصر ، و الكلّ يختار القناع الذي يناسبه ، و ما أنسب الدين
لاتخاذه قناعاً طاهراً ، يلوذُ المرءُ خلفه آمناً من الفضيحة ، مرفّعاً عن
ارتكاب العيب ، مغبوطاً من الآخرين على وسع مطرحه في جنّات ربّه .. هذا ما
أرادت الكاتبة إيصاله عبر تفصيل ( عمر ) ، النائب البرلماني الذي بنى
مسجداً بعشرات الملايين ، في حين لم يشغل باله صباح افتتاحه إلاّ كيف
سيستقبل أهم المناصب المدعوّة ، و ماذا سيقول في كلمته الافتتاحيّة ، أمّا
القصد الروحي من بنائه لذلك المسجد ، فلا يلمحه القارئ في سطرٍ من سطور
القصّة .
و لا يفوت الكاتبة
أنْ تُفْرِد للفقر مساحة بين تفاصيلها ، فهي تُقدِّم نموذجين عن الفقر ،
الأوّل هو ( سميح ) ، السائق العمومي الذي يموت جوعاً إنْ لم يُشِرْ له
أحدهم و يطلب إليه إيصاله إلى مكان ما ، ليس لأنَّ المبلغ الناتج عن إيصال
الزبائن كفيل بتأمين لقمته ، بل لأنّه يعيش على هموم الناس ، و يخون الفقر
فيهم ، فيصوغه في تقارير ـ و يقوّله كلاماً و شتائم لم ترد أصلاً ، و
يتقاضى أجره المُسْتَحَقّ على ما قدّمه من خدمات .. أمّا النموذج الثاني ،
فهو ( محمد ) ، و عبره تطرح الكاتبة فكرة أحلام الفقراء ، فـ ( محمد ) هو
السائق الخصوصي لسيدة ثرية ، و هنا يمكن للقارئ أنْ يتصوّر المفارقة
الكامنة بين سائق السيارة و صاحبتها ، و ما يمكن أنْ تبعثه جولات تلك
السيدة السياحية ، و مشاويرها للأسواق ، في نفس ( محمد ) المسكين ، الذي
كان أكبر حلمٍ حلمه في حياته أنْ يتباهى بقيادة سيارة الـ (BM W ) على طريق
دمشق-بيروت .. لكنّ أحلامه تفاقمت يوماً بعد يوم ، مع مرور السواق و
المحال التجارية الضخمة ، إلى أنْ تنهي القصّة نفسها بنفسها : " كان يحلم
باستبدال الزريبة التي يعيش فيها مع زوجته و أولاده ببيت حقيقي تدخله الشمس
من شباك واحد على الأقل ، ثمّ صارت السيارة حلمه الكبير ، فامتلاكها يسهل
عليه العمل و يزيد الربح ، صار بعدها يحلم بمنح أطفاله الستة حياةً كريمة
.. ثمّ تخلّى عن الحياة الكريمة و السيارة و البيت و اختصر حلمه و حجّمه ،
فصارت العودة إلى البيت مساءً بعد يوم شاقّ محشو بالإرهاق و مندّى بالعرق
هي الحلم الأكبر الذي يحقّقه ( محمد ) على الأقلّ في كلّ مساء "ص101
و
لفساد الإدارة تفصيلٌ يلعبه ( فؤاد ) ، فتصوّره القصّة ينتقل من كرسي إلى
آخر ، حاملاً معه وباء فساده ، لكنّ الطرافة أنّه حين يُعيّن مديراً لهيئة
مكافحة الفقر ، يمتثل له أحد الموظفين الذي يفوقه فساداً ، و يُعيدُه
لمنزله إلى الأبد من خلال تقريرٍ صغير ، يصوغه ضدّه بما يُحرِّض على بثّ
القلق فيما يتعلّق بأمن الوطن الذي هو أغلى من أيّ شيء ، حسبما ورد في
التقرير .
و يستكمل جنين
الحياة نموّه المنطقي عبر تفاصيل ديمة ونوس ، فالمرأة التقليديّة تفصيلٌ
حقيقيّ منتشر كما ينتشر كلٌّ من السياسي المجرّد من منصبه ، و المدير
الفاسد ، و الساقطة ، و الفقير ، و الصحفي الخائن لمهنته ، و مدّعي الإيمان
... و ( سهر ) هي التي تلعب دور تلك المرأة ، ففضولها محصور بالتلصص على
جيرانها ، و باستقبال جارتها عند الصباح ، و بالإصغاء لدروس معلّمة الدين ،
و تتويج زوجها ليلة الخميس بوصلة رقصٍ حارّة..
ربما
نجحت تفاصيل ديمة ونوس بعرض مشاهد متنوّعة من الحياة عبر ملكة الكتابة ،
محاولة إظهارها بصورة متكاملة ، إلاّ أنّ تفاصيلَ عديدة لاتزال تعيش رغبة
المشاركة في لوحة الحياة التي لا يمكن لها أنْ تكتمل في أذهان القرّاء دون
إضافات يمارسونها بما يحلو لهم من خطوط و ألوان .
نادين باخص - الحوار المتمدن
إذا كان الرابط لايعمل لسبب ما, فالرجاء البحث في مجلد الكتب المحملة حتى اليوم:
http://www.mediafire.com/#ms1dzyv1tns14
or
http://www.4shared.com/folder/QqJXptBS/_online.html
تحتاج
إلى أحدث نسخة من أكروبات ريدر لتتمكن من فتح هذا الكتاب. إذا طلب منك
باسوورد, فهذا يعني أن نسختك قديمة!! رجاءا تنزيل أحدث نسخة من: