Saturday, September 20, 2014

دراسة برنارد لويس، «الربيع العربي» و الحشاشون الجدد




■ تتسارع الأحداث في المنطقة العربية بشكل جنوني، لا يمر يوم إلا ونسمع أخبار القتل والذبح والتهجير والتفجيرات والقصف الهمجي للعديد من المدنيين الأبرياء، أطفال ونساء وشيوخ، وعسكريين و قوات أمن. فالحرب الأخيرة على سكان غزة الجريحة خلفت مئات القتلى وآلاف الجرحى، كما أن عواقب الاقتتال الداخلي في سوريا والعراق وليبيا واليمن… لا تبشر بغد أفضل لشعوب خرجت في هبة شعبية تطالب بالحرية والديمقراطية في «ربيع عربي» يعد بالكثير. وتعبر هذه التحولات عن رغبة دفينة للولايات المتحدة لرسم خريطة جديدة للعالم العربي، ولهذا المخطط مفكروه ومنظروه، يأتي على رأسهم برنارد لويس.
وهو من أبرز المتخصصين في العالم الإسلامي، فهو «المفتي الكبير للغرب» كما يسميه الراحل محمد أركون . ويرى برنارد لويس «أن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون، لا يمكن تحضرهم، وإذا تركوا لأنفسهم سوف يفاجئون العالم المتحضر بموجات بشرية إرهابية تدمر الحضارات، وتقوض المجتمعات، ولذلك فإن الحل السليم للتعامل معهم هو إعادة احتلالهم واستعمارهم و تدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية». وينم هذا التفكير عن احتقار واستصغار.
برنارد لويس، منظر تفكيك العالم العربي و الإسلامي:
وضع برنارد لويس مخططه التقسيمي، في فترة حكم الرئيس الأمريكي «جيمي كارتر» 1977- 1981. ويتمثل الهدف من هذا المشروع في تفجير المكونات الاجتماعية والإثنية للمجتمعات العربية و الإسلامية، وذلك بدفعها للاقتتال الداخلي، الطائفي والمذهبي. تكمن النتيجة المتوقعة من خلال المشروع في تقسيم هذه الدول إلى دويلات صغيرة تتحكم فيها النزعة العرقية والطائفية والعشيرة والقبيلة، لا الأسس الوطنية والقومية. فكل الدول العربية والإسلامية في الشرق الأقصى (إيران وباكستان وأفغانستان) وفي المشرق العربي (مصر وشبه الجزيرة العربية قاطبة والعراق وسوريا ولبنان والسودان) وفي البلدان المغاربية (الجزائر وتونس والمغرب وليبيا)، معنية بهذا التقسيم، أي إنشاء أكثر من ثلاثين كيانا سياسيا جديدا وتحويل العالم الإسلامي إلى 88 دولة بدلا من العدد الحالي: أي 56 دولة. و أصبح هذا المشروع من الأعمدة الأساسية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة.. و قد ترافق ذلك بما روج له من مفاهيم مثل «العولمة» و»الشرق الأوسط الكبير» و»الفوضى الخلاقة»، و»نهاية التاريخ» إلى غير ذلك من المفاهيم والأفكار، التي تدور في مجملها حول هيمنة السوق والمؤسسات التجارية والاندماج الاقتصادي والتعاون الجهوي، وهو الأمر الذي سيجعل دور الدولة، بصفتها مؤسسات سياسية وإدارية، في ضبط الحركية الاجتماعية والاقتصادية يتراجع.
والجدير بالذكر أن هذه المنطقة لعبت دورا أساسيا في حصار الاتحاد السوفيتي والتضييق عليه أثناء الحرب الباردة والحد من المد الشيوعي. و بعد انهيار المعسكر الشيوعي وحلف وارسو، كان لا بد لأمريكا من «عدو جديد». و قد وجدت في الحركات الإسلامية الجهادية والتكفيرية ضالتها، فجاءت مرحلة «محاربة الإرهاب الدولي». فبعد أن تم توظيف هذه الحركات في محاربة الاتحاد السوفيتي وحلفائه في المنطقة، تحولت هذه الحركات، بقدرة قادر، إلى عدو يستدعي الوضع محاربته. و تم بالفعل ذلك بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 وظهور ما يسمى بـ «القاعدة» وعلى رأسها أسامة بن لادن، ووضعت خطة دولية لأجل تحقيق هذه الأهداف. ووجدت الولايات المتحدة في العراق وفي «صدام حسين»- المتهم بامتلاكه أسلحة الدمار الشامل وبعلاقته مع القاعدة وبضلوعه في أحداث برجي نيويورك- كبش فداء نموذجي لتفعيل هذه الخطة.
كما اقترحت أمريكا مبادرة لتأسيس «السوق المشتركة للشرق الأوسط»، حيث توفر دول الخليج الأموال وتقدم بقية الدول العربية اليد العاملة وتنفرد إسرائيل بالخبرة. وقد تم قبول هذا الاقتراح من قبل دول عربية، ورفضته العراق وسوريا. وقد كان عليهما دفع الثمن الغالي. إن الدعم المطلق لكل مخططات التفكيك التي تتعرض لها المنطقة، تجد صداها في الفكر الصهيوني و لدى «تيودور هرزل» الذي عبر عن اقامة «دولة اليهود». و لعل إعادة نشر أطروحة التقسيم التي دعا إليها لويس في مجلة وزارة الدفاع الأمريكية، الذي يلتقي في مجمله مع الطروحات الصهيونية، غايته ضمان أمن إسرائيل لمدة تفوق الخمسين سنة، وتضمن تخلف العالم العربي وضعفه و زعزعته.
«الربيع الربيعي» فرصة للهيمنة الأمريكية:
لا يختلف اثنان، ممن يؤمنون بالخيارات الديمقراطية، أن الأنظمة التي قامت على أنقاض حركات التحرر الوطني أو بفعل الانقلابات العسكرية عقب الحرب العالمية الثانية، قد تميزت في ممارستها للحكم بالاستبداد والفساد وبالاحتكار لكل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية وبالرغبة في التوريث، وغيرها من المسائل الخلافية…، وقد كان من الطبيعي أن تطمح شعوب هذه الدول ذات الطابع «الجمهوري» إلى «التغيير» و إلى مزيد من الحرية والديمقراطية.
وأصبحت شعارات «ارحل» و«الشعب يريد إسقاط النظام» وغيرها من الشعارات، من يوميات «الشارع العربي». وقد بدأت الأنظمة والحكومات تتهاوى تباعا في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، فقد «هرب بن علي» من تونس وتم قتل القذافي في ليبيا وإلقاء القبض على مبارك بمصر وعزل علي عبد الله صالح باليمن…أما بسوريا، فقد واجه النظام ولا يزال يواجه معارضة مسلحة أتت على الأخضر واليابس. فالدول التي عرفت هذا الجحيم، اعتقادا من شعوبها أن وقت التغيير السياسي قد حان، تمر بأحلك مراحلها التاريخية من فوضى وعدم استقرار، و تتعرض إلى احتمالات جادة للتقسيم و التفكيك.
فتجربة الثورات «البرتقالية» التي عرفتها دول أوروبا الشرقية التي انتمت في السابق إلى الاتحاد السوفيتي في مطلع الألفية الثالثة، قد مثلت تجربة ناجحة في التغيير الذي حصل في هذه البلدان. وهو الأمر الذي دفع بأصحاب القرار في أمريكا إلى محاولة تجريبها في العالم العربي بمختلف الوسائل.
برنارد لويس و الحشاشون:
لم يكن يدري- ربما- برنارد لويس، وهو ينقب في تاريخ المسلمين أنه قد فتح «صندوق بندورة» مليء بالأفاعي وكل الشرور. فقد تعرض في كتابه الصادر سنة 1967 «الحشاشون: الإرهاب والسياسة في العصر الوسيط للإسلام» إلى ظاهرة العنف السياسي لدى المسلمين في الماضي. و قد ركز على طائفة الإسماعيلية الشيعية التي جربت الإرهاب للإطاحة بالخلافة السنية التي كان يقودها سلاطين الأتراك،. و نشأت هذه الحركة الفكرية و السياسية في ظل الحكم الفاطمي بالقاهرة في القرن الخامس الهجري المصادف للقرن الحادي عشر الميلادي وأصبح قائدها «حسن الصباح» الذي استقر بقلعة ألموت. و تعود جذورها التاريخية- حسب لويس- إلى الصراعات حول الخلافة التي أعقبت وفاة رسول الإسلام (ص). إن التنظيم شبه العسكري منح لحركة الحشاشين قدرة عجيبة للتغلغل في أوساط المجتمعات واكتساب أنصار جدد بفضل الدعوة للعقيدة الجديدة المبنية على الإخلاص لتعاليم الإمام الخفي والالتزام الكلي بأوامره. و ليست صدفة أن تتم إعادة نشر هذا الكتاب سنة 2001. فـ «بعث» الصراع القديم بين السنة والشيعة، يدخل ضمن مخططات الولايات المتحدة.
العراق، أول المختبرات في السياسة الأمريكية:
الملاحظ أن العقيدة الأمريكية كانت ولا تزال ترمي إلى الوقوف في وجه كل من تخول له نفسه تحدي « سلطة ومكانة ونفوذ الولايات المتحدة» ، كان ذلك سنة 1963، أثناء الحملة التي قادتها أمريكا على كوبا. إن حماية مصالح أمريكا الحيوية المتمثلة في مصادر الطاقة والموارد الاستراتيجية الهامة و الهيمنة على الأسواق الأساسية، هي التي تشكل المبادئ الجوهرية في العقيدة الأمريكية. و لعل الدعوة إلى إقامة نظام دولي جديد شامل رافقت بروز ما اصطلح عليه بـ «الإرهاب الدولي»، الذي شكلت أحداث 11 أيلول/ سبتمبر أحد مظاهره «الأولى».
و كان لويس من دعاة غزو العراق منذ سنة 2003، ولعل ما قام به الأمريكان من إضعاف للدولة العراقية بمجرد دخولهم إليها يبين عن نواياهم حيث تم تفكيك الجيش العراقي والمؤسسات السياسية والإدارية، بحجة «القضاء على النظام البائد ومخلفات الطاغية صدام حسين ونشر الديمقراطية». هذا بالإضافة إلى سياسة الإقصاء والانتقام التي مارستها الحكومات العراقية المتعاقبة ضد العرب السنة وبخاصة في فترة نوري المالكي.
«داعش» و»شبيهاتها»: الطامة الكبرى:
فاجأ تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) بوحشيته و جرائمه الجميع. فالكثير من الملاحظين و حتى الإدارة الأمريكية التي رعته في البداية بالتعاون مع حلفائها في المنطقة، لم تتوان في الاستغراب من ممارساته.
و قد قام التنظيم بعدة عمليات داخل سوريا والعراق، و استولى التنظيم على كميات ضخمة من الأسلحة المتطورة. ويبدو أن ما عجزت عنه محاولات الأمريكية لتقسيم العراق وتفتيت نسيجه الاجتماعي والثقافي ستنجزه «الخلافة الإسلامية» تحت إمارة «البغدادي». فقتل الشيعة وتهجير المسيحيين واليزيديين وكل الطوائف غير السنية وتهديم الأضرحة وآثار ورموز الحضارة العربية الإسلامية المتسامحة والحاضنة لكل التنوعات الثقافية والدينية. وقد ينتج عن هذا الوضع تحالفات جديدة في المنطقة، لما تتميز به هذه الظاهرة الإرهابية من خطر على استقرار المنطقة وعلى تحديها للزعامات والمؤسسات القائمة التي تدعي القيادة للأمة الإسلامية. وتمثل «داعش» مجموعة من المرتزقة- الذين أتوا من مختلف الدول العربية والإسلامية ومن الدول الغربية- تهدد كامل المنطقة بما فيها السعودية والكويت ولبنان… الواضح أن المنطقة دخلت في صراع جيوسياسي جهوي كبير وتلعب «داعش» دورا حاسما في استمالة السنة وبقايا رجال صدام حسين في العراق، بينما سوريا التي تعاني من حرب داخلية، فهي كذلك لا تنأى عن هذا الصراع القائم بين المحاور، بل هي مركزه.. و قد كانت مناسبة «الربيع العربي» فرصة جميع الأطراف للتدخل والضغط ولما أعلن جورج بوش في أول مايو 2003 «أن المهمة اكتملت» عقب احتلال العراق كان يعني أن الصراع الديني التاريخي قد تمت إعادة إحيائه و بعثه من جديد. .
يبدو مما سبق و ما تبرزه الأحداث المتسارعة من حروب داخلية و اقتتال و تدمير للبنى التحتية والثقافية و الدينية، أن «عقيدة لويس» وجدت طريقها إلى الواقع….و ما تبديه الشعوب العربية من مقاومة للهيمنة الأمريكية كفيل بإعطاء الأمل
محمد داود - القدس العربي
كاتب جزائري


No comments:

Post a Comment