Thursday, March 13, 2014

بسام حجار - لأروي كمن يخاف أن يرى



دار المطبوعات الشرقية. بيروت  1985 |  سحب وتعديل جمال حتمل | 120 صفحة | PDF | 3.08 Mb
http://www.mediafire.com/view/3vxvj6t3892pii9/بسام_حجار_-_لأروي_كمن_يخاف_أن_يرى.pdf
or
http://www.4shared.com/office/T6oJsM5Fce/__-_____.html

قيل فيه كلام كثير. أصدقاء وشعراء ونقاد وفنانون وزملاء مهنة ودارسون اجتمعوا حول ورق الصحف ليملؤه في اليوم التالي لوفاته. كان رحيل بسام حجار في السابع عشر من شباط 2009، بمثابة فاجعة أدبية. حتى أولئك الذين نبذوه مهنياً، وتناقلوه من قسم ثقافي إلى آخر، حزنوا من أجله، وربما ندموا. ذلك أن رحيل ذلك الرجل الخجول لم يكن مجرد موت، عرفنا جميعاً أننا سنفتقد أحد أهم الأسماء في الشعر، وفي الترجمة أيضا. كان موته ضربا من خيبة الأمل، لأننا كنا نعتمد كثيراً على بسام حجار في نقل ترجمات إلى العربية، قبل أن نتوقف عند شعره. لذلك فإن فقده كان شبيها برزمة من الخسارات التي نثرت في وجوهنا. وفي واقع الأمر، هناك دائما مبرر لخسارة شخص، تسليم بأمر المرض، أو الفنائية أو الباب الذي سنعبر منه "إلى الجوار المخيف" (على حد قول بسام حجار نفسه). وهناك تسليم أيضاً بأن اللغة تتخطى العزلة أو اليأس، أو الانغماس في الأنا، أو تتخطى الفرح والزمن والنكتة والابتسامة وحتى أنها تتخطى الوجوه. هذه اللغة هي كل ما ترك لنا بسام حجار، لغة روائيين عالميين حمل على كتفيه، كتبهم وأودعها صندوق البريد العربي، وغادر باكراً.
بسام حجار قد لا يطلب منا شيئاً، لا شيء على الإطلاق، كما قد تؤرقه المراثي، والمديح على السواء. ذلك أن الرجل على الارجح، لن يسألنا أن نذكره، وهو المتقشف في علاقاته الاجتماعية، الذي لم ينحز عملياً إلى المقهى أو المدينة "بيروت"، أو أي مكان خارج مكتبته وغرفته ومدينته المتواضعة والبسيطة صيدا. عرف عن بسام حجار انطوائيته بما يشكل له الفسحة، لأن ينجز ترجماته وكتاباته. لكننا لا نجزم بأنه آثر ألا يضيع وقته في الأحاديث على طاولات المقهى. وذلك بسبب الفيض الهائل مما كتب عنه السنة الماضية (بغض النظر عن مستوى صدقية المكتوب). المؤكد أن هناك من أحبه، لكن كان هناك من شعر بـ"غيرة أدبية" منه، كما من حاول التباهي بمعرفته الطويلة بالمتوفي، عن طريق سرد حكايات شخصية لم يرقى بعضها حتى إلى مستوى الـ"عيب". إلا أن ما يفوق الحزن حزناً، هو ذلك الانقضاض الشرس على صورة حجار، بعيد وفاته. وهي بكل الأحوال ظاهرة لا تجد مثيلاً لها في دول تحترم أدباءها. وفي مقابل ذلك، كان لبعض أصدقائه، فضل إقامة تكريم خاص له، طبعاً مقابل وزارة الثقافة النائمة بالتسي تسي. لم يحظى حجار منذ وفاته وإلى اللحظة هذه بتكريم، أو تنويه رسمي بأعماله، والأكيد انه لو انتظر هذا الأمر في حياته، لما استمر يشتغل بنفس الوتيرة، لأن من ينتظر تكريماً من وزارة أو جهة رسمية، يموت قبل موته. في كل عمل قدمه حجار، كان ثمة نوع من احتفاء شخصي باللغة، وبالذات. لذلك فإن ما سوف يكتب فيه، سيكون متأخراً، وتافهاً ولا ينتظره ربما بسام نفسه.
شعره وترجماته
عرف عن بسام حجار حضوره الخجول في المناسبات الشعرية والثقافية، كما أنه ضبط نفسه كشاعر، متوازناً مع إيقاع مناخات قصيدته. فلم ينخرط في جيوش وتكتلات وظواهر اجتماعية خاصة بالشعراء، ولم يكن شاعراً مدينياً بمعنى معايشته للمدينة، كذلك لم تستهوه مسألة إعلان الأنا في الحانة أو المقهى أو وسط الضجة أو التكاثر البشري المتزايد حول اسمه. كانت له بوصلة وحيدة ترشده إلى طاولته الشخصية وأغراضه التي "لن تعرف أبدا أنه رحل". فكان يمشي سائراً في نوم اللغة، يلكزها لتصحو، لكن دون ان يثير نقاشاً أو سؤالاً أو ريبة، بقدر ما كان يثير دوماً الفضول في رؤيته، رؤية وجهه، كيف يتكلم وكيف يدون الملاحظات وكيف يجادل أو يناقش أو يقنع أحداً بفكرة. كان شاعر نفسه، وغرفته وأدواته وهواجسه وتشاؤمه وعلاقته مع الموت والغياب وسوداوية العبارة والفكرة الشعرية. لذلك فإن موت بسام حجار يطرح إشكالية التشابه والانفصال ما بين الشاعر ومادته المكتوبة. وأي قراءة وإن كانت شديدة التمهل، في قصيدته، لا يمكن إلا أن تتدخل فيها شخصيته، وإن بشكل عابر. هذا التقاطع ما بين عزلة الشاعر عن العالم البراني، وعالم قصيدته المحدود العناصر، هو أحد أكثر الالتباسات حول شعر حجار، بسبب أن الشاعر لم يحد عن ذلك الكون الذي اختاره مؤطرًاً بالوساوس السوداء والرمادية والقليل من الأبيض والألوان الأخرى، المفتوح دوماً على باب الغياب والخشية منه والحوار معه.
مجموعته الشعرية الاولى حملت عنوان "مشاغل رجل هادئ" (1980)، ولم يكتمل مناخها ويثبَّت في ذاكرة القارئ، إلا بإصدار ديوانه الثاني "لأروي كمن يخاف أن يرى" (1985). بين تلك الأعوام الخمسة، كان بسام حجار، يقدم لغة مقتضبة ومجربة، مقتصدة وعميقة، سهلة العبارات وملأى بأفخاخ المعنى، لذلك فقد عاين الشعر من مسافة ما أتاحت له أن يوسع هامش القصيدة، دون أن يلتزم بما هو أكثر من مسألة شخصية. قصيدة حجار، التي تحمل صوتاً خافتاً وتذبذبا بطيئاً وموتراً في القارئ، التزمت اولاً بتلك المساحة الشخصية، المشبعة بالألم وأسباب العزلة. ففيما كانت قصائده منزلية بجغرافيتها، كان لجوؤه إلى عناصر الطبيعة، محاولة طارئة لجعل مساحة هذا الألم أكبر أو لدمجه بالمكان الخارجي. في مجموعته الثانية، نلمس هاجس الزمن، وهاجس الخسارة، أو نقصان العمر. في قصيدته "الثلاثون"، يقول "والثلاثون عمر تافه/ وضجري/ يدخل في عمر الأمثال". هنا يستبعد الزمن، أو ينزوي في الصندوق، الذي يحتله زمن آخر، كلي، قديم، ويظهر الشاعر فاقداً لإيمانه باللحظة الراهنة، وبحيثياتها كما يقول "حتى مطلع الثمانينات، كانت ثلاثة عقود من تجارب الشعر ونقده قد اورثتنا سجلا ًحافلاً برطانة (الثورات) داخل اللغة". لعل هذا يبيِّن لنا ناحية تقنية متعمدة في شعره. إذ قارب بين قيم مادية محددة وقيم مجردة ( الخشب/ الوقت، الجدران/ الهدوء، الجسم/ الصلوات، الغليون/ الليل، الحبر/ المساء، الركام/ الفراغ، الأمكنة/ المسافة..). ويمكننا إذا صح التعبير، قول إن بسام حجار كان يحمل عباراته الخافتة، في توازن شديد وصعب بين النوعين المختلفين من القيم. ظلت الأصوات في قصيدته أحادية، مخاطبة الذات او المرأة أو الجماعة أو الصديق أو اللغة نفسها. والمخاطب في قصيدته، لا يقيم على مسافة كبيرة من الشاعر نفسه، هناك تقارب هائل بين الشاعر وكائنه بسبب المفردة الواحدة التي يتقاسم معناها معه، حتى نتخيل أن المتكلم والمخاطب يقفان في لعبة انعكاس لا نهاية لها. يمكننا أن نقيس شعر بسام حجار بمسطرة الحكمة، والتأني الشديد في ضخ العبارة واحدة تلو الأخرى في القصيدة. ذلك أنه اختار الانحياز إلى لغته التي ابتكرها بفعل القراءات والترجمات (فيما بعد) وهي التي هزت عرش الشعر، لتؤلف نصاً لا يلتزم بالموروث الشعري من المفردات. التزامه بقيمة فلسفية محددة لكي يجدد أو يغذي مشروعية النثر، سيمتد إلى أجيال لاحقة. ذلك ان حجار، كان قد سبق كثراً من معاصريه، باختياره هوى النثر، والإقامة فيه بمؤونة لشخص واحد. اللافت أنه استطاع التملص من المعطيات السياسية، كما والإيديولوجيات الحاضرة بقوة في ذلك الوقت، إضافة إلى انشقاقه الدائم عن كل ما كان يفرض على الشعراء، من أدوات كتابية أو منبرية، أو حتى مستوردة بشكل جاهز من الشعر الأوروبي والأمريكي تحديداً. ورغم تقارب مناخات قصيدته، من أسلوب معالجة الأمريكيين المعاصرين، إلا أنه تمكن من نسج علاقاته مع العبارة والاستعارة واليومي واللحظوي والصامت.
قصيدة حجار، ظلت مرتَّبة كغرفة رجل يهذي، رجل جمع في رأسه كل العيِّنات البصرية، التي استطاع الحصول عليها من الشارع والمارة والذين لا يعرفهم، بمعنى أنه كان يتحرك خارج غرفته وداخلها. شعره هذيان جذاب، وخافت، يتوارى خلف المشهد أو الصورة التي تبدو صعبة التأليف للوهلة الأولى، والتي تحني رأسها إلى الداخل متجنبة القارئ إذا مر سريعا. قراءة بسام حجار تستلزم تمهلاً وبطئاً، لا يمكنك إلا أن تتأمل وأنت تقرأ، إنه تمرين على التركيب وإعادة البناء. هذه المهمة تترك للقارئ، الذي ما أن يصطدم بالصورة المركَّبة، حتى يتضح له هذا العالم من الالتباسات، العالم المبني من أشلاء عالمين: بسام حجار وما عداه. لم يكتب أحد بالطريقة التي كتب بها بسام، لم يتجاوز أحد الزمن بشعر العبارة السهلة، كما فعل هو. ذلك أن التوليفة المتمهلة، ما بين خواص الزمن نفسه (الصباح، المساء، الحركة) والخواص النفسية والمكانية والروحانية (فيما بعد)، كانت تحمي العبارة والمعنى من التلف، وترفعها أعلى من تلك اللحظة التي ولدت فيها، لأن العبور الأهم كان نحو التجريد، وعدم الانجرار وراء حالات ميكانيكية أو بصرية آنية بالكامل. ولنأخذ مثلا "هل يكفي أن تحبهم/ لكي لا تتبعك/ أرواحهم كالمصابيح؟"، أو "هل تسمع كيف يطحن الصمت/ تلة من الدقائق"، هذه المقتطفات الصغيرة، تتضمن مستويات عدة من التكثيف البصري والدلالي.
ففي المقطع الأول مثلاً، يكون هناك إدخال لحركة جسمانية بطيئة في النص. إلا ان هذا الإيهام بالحركة، يأتي في سياق خفوت العبارة، ويتطلب صفاء ذهنيا، او تواطؤ القارئ مع الجملة الشعرية.  تتوارى الحركة خلف الصورة المجازية، إضافة إلى تواري "الجماعة" أصحاب الحركة أنفسهم (أرواحهم كالمصابيح)، ويتم الإيحاء بزمن ليلي في القصيدة (المصابيح) ما يغذي حضور شبح الآخرين في المعنى. من هنا، يمكننا اعتبار أن صور بسام حجار الشعرية، المجازية، يكون لها وظيفة غير مباشرة في النص، وهي أن تتدخل لتضيف تفصيلاً فيزيائياً، غير متوقع. أما في المقطع الثاني "هل تسمع كيف يطحن الصمت/ تلة من الدقائق"، فلا اعتبار هنا خارج الزمن نفسه (الصمت/ الدقائق)، يعاد تشكيل الزمن وخربطته ككتلة واحدة، غير منظمة (تلة من الدقائق)، تسبقه تلك الحنكة الدلالية على اعتبار الصمت فضيلة (الصمت يطحن الدقائق). وهذا مثال واحد من ألعاب بسام الشعرية، التي كانت كلها تدل على بناء حيزه المتخيل على أنقاض واقع مهدوم، لا يؤدي وظيفة الشعر، بقدر ما يستفز الشاعر ليعلن حروبه الخاصة عليه. واللعب مع الزمن، كان أحد مقومات القصيدة عنده، فالزمن هو ساعي بريد الموت والغياب، وهو الكفيل بمحو أشخاص عن حلبة الحياة، وهو أحد أشد العناصر التباسا، حول ماهيته وفهمه ومعناه. لذلك ومع أنه كان دوما زمنا ذا مصدر يومي، يرافق مشاهدات بسام حجار للمدينة، ولحركتها، غير أن الشاعر لم يكن يلتزم به كزمن للقصيدة نفسها، وبالتالي، فإن إفراغ القصيدة من الزمن، كان يتم عبر تحميل العبارة، أكثر من معنى، بعد أن يكون قد أعاد تأليف مشهد بصري شعري، من مشهد بصري لا شعري. ودون أن يفوته إعادة تشكيل الحركة، حركة الجسم والمفردة وحركة انتقال القيمة الفلسفية، إلى المربع المادي أو الى سلة الحاجة الإنسانية. وهذا هو أحد العوامل التي رفعت نصوصه خارج سياق اللحظة .
لكن بسام حجار، لم يعكس ذاته في القصيدة، بقي نصه بعيداً عن الشخصنة وقريبا من كل ما يصب في خانة العدمية. وبرغم اهتمامه بالموت والغياب والخسارة والرثاء إلى حد ما، إلا أنه لم يتعمد اللجوء إلى الميتافيزيقيا في قصيدته. فلم تحمل جملته أبعاداً فلسفية تثقل المعنى وترمز الجملة. ذلك لا يعني خلو نصه من الفلسفة، إذ حتى أن التقارب مع الميتافيزيقيا كان مجرد تماس مقصود، لكن دون الوقوع في فخه. فالغياب يوطد العلاقة ما بين الشاعر وأشياء الغائب، وفيما يبدو تسليما بقدرية ما، او مصير، فإن الشاعر لا يهمه من الفقد إلا أن يستعيد الذاكرة، وعلاقته بالذاكرة تأتي على قياس الغائب ومكانته، كما انه استعادة لحياة ما، كنكران لوجود هذا الغياب. لكنه استطاع أن يؤلف من هذا الغياب نصاً يوازي الفرح، نتخيل فيه الشاعر عابساً، فيا تتذبذب عباراته لتخترق مخيلة القارئ. في مجموعة "فقط لو يدك" (1990)، لا يتنازل الشاعر عن أسلوبه، في تقطيع النص، واختيار أسلوب الجملة - الفراغ - الجملة، كأنه بذلك يحدد إيقاع القراءة، كما إيقاع المتتاليات البصرية التي يدمجها في النص. ولن تختلف قصائد هذه المجموعة عن قصائد مجموعاته السابقة، إذ سيبقى محافظاً على مناخ المنزل والأنا الخاصة المهجوسة بالوقت وتسارعه، والاقتراب من الموت، إلا أنه يدرك تماما تأثير هذه القيم سلبا على القارئ، وعلى نفسه. ويمكن القول ان اشتغال بسام حجار في القصيدة، وأسلبتها، لم يكن إلا هروباً من القمقم الثلاثي الزوايا (الأنا- الوقت- الموت)، بما يتراكم في كل زاوية من مترادفات وأتباع. لهذا فإنه سيكون هناك محافظة على عناصر محددة خاصة بالمكان. أما إعادة تأليف ها المكان، أو إعادة ترتيبه أو تنظيمه، فهو ما سيبدو الشغل الشاغل، وإعادة ترتيب المكان هو في الوقت عينه إعادة ترتيب الأنا، وتنظيفها من سوداوية قدر ما أمكن. إذ نحن نرى أن بسام حجار أدرك منذ سنوات شعره الأولى أنه متورط في السوداوية، فلم تكن كتاباته إلا محاولة للتخلص منها. وقد اتت على شكل افتراض الطفولة في مقابل الشيخوخة، والقيم المجردة من الوقت (الفرح، الخفة، الأمكنة الداخلية كالمصعد والغرفة) في مقابل السيلان غير المتوقف للوقت، والخفة في مقابل الغياب المكتنز بالالم، والفعل الميكانيكي في مقابل خفوت الجسد النهائي، والاستعانة المقتضبة بأدوات الطبيعة مقابل فكرة التلاشي "ضعي زرافة في إناء/ سمكة في حديقة/ ضعي عصفورا ووحيد قرن/ في قفص واحد/ وصدِّقي/ أنهما سيتحابان/ لأنك تريدين ذلك/ بالعناد الذي يجعلك تحسبين النوم/ عطلة زائفة/../ضعي حين ترسمين وجهي/ قليلا من التعب في ملامحي/ خطا واحدا على جبيني/ لكي أحسب أنني في منتصف العمر/ وليس في آخره". 
لكن عالمه الشعري، استكشاف لتقنيات وأسرار ومفاتيح كانت دائما تفضي إلى أبواب ونهايات أشبه بنقطة عملاقة نصطدم بها. بسام يتبع في أسلوبه الشعري- الذي يقترب من السرد المرمَّز، لعبة محددة، تتراكم فيها الصور واحدة إلى جانب الأخرى، ما يلاعب القارئ، الذي لا يستطيع الإنفكاك عن النص "الشمس نقطة صفراء/ والطريق خط أسود/ بين العتبة وطرف الورقة البيضاء/ ألأن الورقة البيضاء لا تكفي/ ينبغي ألا يفضي الدرب حقا؟/ في المرة القادمة/ أكتبي عتبة وبيتا/ وأشخاصا/ في رقة العناق". فالسهولة الخادعة التي يكتب فيها بسام، تأتي بفعل عين حساسة، تمسح العالم الخارجي بصمت، وتختزله ثم توازن بين بقاياه ومساحة العاطفة، فلا يتخلى عن العالم بطبيعة الحال، ولا يرضخ له. وعلى غرار ما يوضح في إحدى كتاباته، فإنه آثر الدخول في مغامرة شعرية، لا تلتفت إلى الوراء، ولا تعنى بالنقد كذلك، إذ إنها تفتح الباب نحو قاموس من العبارات والتوليفات الجديدة، التي لا تأخذ بعين الاعتبار المقاييس النقدية التي كانت سائدة منذ الخمسينات، واعتبارات مجلة "شعر". 
يقول "خشيتي من الوفرة والاتساع جعلت مني كاتبا بمفردات قليلة". وبغض النظر كم نتفق أو نختلف مع الشاعر نفسه، إلا أننا نضيف أن علاقة بسام حجار بالأمكنة، وبحميمية الرواق والغرفة والمنزل والكتاب والمكتب والورقة والإبنة والعاطفة الشخصية، ظلت جميعها ماثلة أمامه. حرّكته وسيطرت على شعره، لكن انتباهه للأمر شكل تحديا للخروج من هذا المأزق. ولأن بسام حجار لم تكن تستهويه بدع كالشاعر النجم أو الشاعر ذو الحضور الإعلامي، فقد تأمّل معطيات الوجود، من زاوية شخصية (غياب الأخت دلال، والأب والزوجة)، لكنه كان وجوداً خاصاً بها، معزولاً وقاسياً بعض الشيء بمدى حدة عزلته ونأيه عن مجالسة الأصدقاء أو التسكع أو التمترس ولو قليلاً في المقاهي على سبيل المثال. وهذه الحدة، ستكون أكثر تبلوراً في شعره ونصوصه، بدءاً من ديوانه "مهن القسوة" (1993) وحتى آخر أعماله "تفسير الرخام" (2008). في "مهن القسوة"، سيتبدد شيئا من ذلك المناخ اللعوب في القصيدة، وسيظل حجار متمسكاً بأسلوبه السهل، الذي يخيط الفكرة أمام سابقتها، ليوحد بين أجزاء قصيدته التي يخترقها الصمت في الشكل والمضمون. وستحتل قصائد عديدة بعنوان واحد (الألم) جزءا لا بأس به من الديوان. وهي قصائد مكتوبة في عام 1990 "لا التعب/ ولا السؤال/ ولا روائح الهزال والنفس الذي/ يزفر من أعماق غائرة/ أن يغادر/ بيننا/ حتى قبل أن ننتبه". هذا الاستعمال لخاصيات جسمانية، من خلال الدلالة على الشفاه والعقل (السؤال) أو الجسد الحيواني الرابض (روائح الهزال والنفس)، بأسلوب رشيق، غير مرهق، يجعل للمعنى احتمالات عديدة، كما أنه يضيع بذلك بوصلة الألم، فينتفي العامل العاطفي أو أي عامل فيزيولوجي مَرَضِيّ أو نفساني مرضي. يشتمل هذا المقطع على تكثيفات بيولوجية، تنصهر في القصيدة، وتزيد من العمق الدلالي.
يقتطع حجار بمقصه مشاهد من الحياة، قد تكون مشاهد يومية وعادية، وغير ملفتة، إلا أن تقطيرها في مختبر عاطفته، ومزجها بألمه الشخصي، يحولها إلى استثنائيات جمالية. إذ يكون العالم متواطئاً من أجل تفسير الم شخص واحد، لكن دون ان تعلن ملامحه، وبالتالي يمكن أن يكون هذا الشخص، أنت أو أنا، كما تقبل فرضية أن يكون بسام نفسه. لكن هذا التكثيف لن يصل إلى ذروته بعد، ونصوص مثل "فقط لو يدك"، "غرفة الخادمات"، "مهن القسوة" و"إصغاء"، لن تكون سوى مقدمات جمالية، لنصوص أخرى ستحملها مجموعته "مجرد تعب" (1994). إذ سيعتمد الشاعر، تأصيل الأشياء كالباب، والظل والضجر (الذي لازمه منذ البداية كمفردة ومعنى، في الكثير من نصوصه السابقة)، وتحويلها إلى ساحات عامة للأفكار والناس، وأشياء الشوارع، وبذلك فإن حجار سيكون قد استدعى المدينة إلى غرفته باللغة، التي آمن بها ملاذاً أخيراً ووحيداً وموقتاً ربما، بانتظار الموت "أغبطك نعمة الخشب، نعمة النسيان، أيها الباب/ سوف تحيا من بعدي/ وسوف تسألك الأيدي/ برقة الأيدي وأناتها/ عن الرجل الذي أغوته فراشة العزلات، في الداخل، وأغواه الصمت الذي هو عبارة الغياب، والتنفس الأعمق لروح الأمكنة الشاغرة". الحياة والموت عنده في كفتي ميزان، تنتقل واحدة إلى الاخرى، ويكون احتفاؤه بالحياة، بحياة الجماد تحديداً، نكاية بالموت وخوفاً منه في الوقت عينه. لذلك، فإن شعر بسام حجار ظل يتأرجح على على حبل يجمع في طرفيه الفنائية والبقاء، بين نفَس ساكن وفراغ مكان. "بضعة أشياء" (2000) ستحمل قيما أكثر فلسفة، وستنحاز اللغة نحو مطارح روحانية، لتكتشف المعنى المستبطن في فلسفات الماء والنار والهواء والأفق والطبيعة التي يصير حضورها مبرراً لمنحاه الفكري، ومعوِّضا عن تقشف النص بمعايير المدينة والمنزل والشرفة.
لكن تغييرا لغوياً سيضرب الجزء الاول من مجموعته الأخيرة "تفسير الرخام" (2008) إذ لن يسلم الشعر من الدراما، كما والمعالجة الملحمية في وقت واحد، وسيكون هناك افتقاراً ملحوظاً لعناصر المكان الآني، ليستعيض عنه بأمكنة متوارية في الزمن، غائبة وشبه أسطورية، أما ذلك التحول في معطيات القصيدة، فلن تكون إلا تفسيراً لتعمقه الذي لن يخفى أثره، في الفلسفة والدين (قصص الانبياء) وما وراء الطبيعة في وقت واحد، إضافة إلى تأثره بكتابات معاصرة أوروبية. كان كل ذلك، في معرض اشتغاله بالصحافة والترجمة منذ عام 1978، إلا أن تبحّره في فكرة الموت، كان الهاجس المتقاسم بين جميع كتاباته الشعرية. أما في الجزء الثاني (قصيدة تفسير الرخام)، فسوف يكون النص حيادياً، بيبلوغرافياً "كأنها ذكريات الشخص/ الذي وددت أن أكونه/ ../ فلا شأن لي بما يجري على بعد أمتار". هي مراجعة يائسة لواجبات بسام حجار نفسه، لذاته التي أسلمت قبل الموت. الذات التي انشطرت لترى وتُرى، كأنها واقفة أمام نفسها، معبئة بالزمن وباللحظات- المناسبات الماضية، فيما يشبه حسابات شخصية لمحاكمة النفس من خلال تراكم السنوات "إني لا شيء/ وحديثي عابر/ مثلي/ بين عابرين".
"جدلية"

إذا كان الرابط لايعمل لسبب ما, فالرجاء البحث في مجلد الكتب المحملة حتى اليوم:
http://www.mediafire.com/#ms1dzyv1tns14
or
http://www.4shared.com/folder/QqJXptBS/_online.html



No comments:

Post a Comment