للأماكن - وخاصة بمدينة الإسكندرية – والأشياء، والذوات حضور آخر، وحديث إبداعي يؤسس السرد من خلاله طفرات أدبية استعارية تمتزج بأبنية الواقع، وتاريخ الشخوص في مجموعة (أخبار الوقائع القديمة) للروائي المصري محمد جبريل، وقد صدرت عن هيئة قصور الثقافة المصرية سنة 2009؛ فالسارد يعيد إنتاج الانطباعات، والذكريات، وملامح الواقع التعبيرية في سياق تختلط فيه المتواليات المنطقية للأحداث بالصور الاستعارية التحويلية للعلامات، والأصوات؛ ومن ثم ينتقل الحكي من مستوى تسجيل حالات الحضور داخل الأبنية الاجتماعية السائدة، والمسار الشخصي إلى رحابة الحياة الفنية الخيالية المولدة من الجذور الواقعية، والمتجاوزة لها في الوقت نفسه؛ وكأن بذور التحرر تكمن في الكتابة السردية، وصيرورتها التي تختلط بفاعلية الوعي المبدع، ومدى تشكيله لحياة حلمية لها زمنها الخاص المقاوم للمسار الآلي من داخل علاماته؛ فقد نرى الأب المريض يعاين الموت، بينما يكثف السارد حياته السابقة في تداعيات صاخبة تومئ بعالم استعاري فائق قيد التشكل في المستقبل، أو نرى صوتا أنثويا مسجونا ينفتح على هوية إبداعية جديدة من خلال اتساع النافذة؛ أو نعاين حضورا داخليا واسعا لشخصية فقدت السمع ثم البصر، وتسعى لتأكيد القيمة الجمالية الإنسانية بحفر الأثر الدال على الذات في المكان ، وقد تتداخل الأصوات المميزة للشخصيات الفريدة بإيماءات المكان، ويبدو كمسرح فني تتشكل فيه الأصوات والصور انطلاقا من أصالة النزعة التمثيلية؛ فثمة تفاعلية فنية تمتد من بكارة الحضور الجمالي للأشياء، وتحولاتها المقاومة للعدم في وظائف الحكي، وتداعياته.
و قد يوجه السارد / البطل الخطاب لذاته من خلال ضمير المتكلم؛ ليوحي بأن المكان لا ينفصل عن وعيه، وتكوينه الروحي، أو يوجهه لمروي عليهم بإشارات محددة؛ ليكشف حقائق خفية، أو نزعات انفعالية صادقة، أو متناقضة، دون أن يتجاوز الحديث مستوى الوعي؛ وكأنه يحاول الإبقاء على الأصالة الأولى في مستوى الحضور الآخر داخل عوالم الكتابة، وجمالياتها، وطفراتها الاستعارية الفائقة. ويمكننا ملاحظة ثلاث تيمات فنية رئيسية في العمل؛ هي الذات بين كثافة الحضور، وأطياف الغياب، والتحول المجازي في تداعيات السرد، وشاعرية المكان في الوعي المبدع.
No comments:
Post a Comment